تحيزات طفيفة بنتائج مخيفة
تحدثت في المقال السابق عن التحيزات اللاواعية التي تحدث في أماكن العمل. هناك كثير من التصرفات التي تدخل تحت إطار هذه التحيزات. من هذه التحيزات ما هو واضح وجلي ونستطيع تجنبه بشكل مباشر ـ وقد نقع فيه أحيانا مثل التمييز والعنصرية. نتصرف أحيانا ونعرف بأننا قريبون من حدود ممارسة هذا التحيز، وقد تنشأ أحيانا ورطات أخلاقية حقيقية في هذه المواقف، تضطرب فيها القيم ولا نتمكن من تحييد الصحيح من الباطل. وهناك نوع آخر من التحيزات التي تحدث بشكل لطيف وخفيف، لكن أثرها متراكم. مشكلة هذا النوع من التحيزات أننا لا نكتشفها حتى بعد حدوثها، وربما مارسناها لأعوام دون أن نكتشفها أو حتى يكتشفها زملاؤنا، لكن أثرها مستمر. هي أشبه بالعادات السيئة التي نمارسها ولا نعرف بأننا نمارسها.
تخيل منظمة تعمل فيها عدة فرق يقودها مديرون أقوياء، يحدث في كثير من هذه الحالات توافق أقوى بين فريق وآخر وتباعد بين فريق وآخر لأسباب غير محددة. تستمر الأعمال بنجاح مقبول من هذه الفرق بالتعايش مع هذا التوافق والتباعد الحاصل. لكن الفرصة المفقودة هنا هي أن التباعد غير المبرر قد يكون مبنيا على تحيزات لا واعية عند مديري هذه الفرق أو عند بعض الأعضاء المؤثرين. تؤثر هذه التحيزات المتمثلة في التباعد غير المبرر في استغلال الفرص وإتمام نتائج أكبر بجودة أفضل. تعمل المنظمات على مبدأ التكامل والتعاضد synergy وبه تتحقق قيمتها الأهم، وهي صنع نتائج مجموعها أكبر من مجموع نتائج الأشخاص لو عملوا بشكل منفرد. وبعبارة أخرى، تثبط التحيزات اللاواعية من قيمة ونتيجة العمل الجماعي. باعتقادي، المنظمات التي تنجح في الحد من هذه التصرفات أو التوجهات، تحقق إنجازات معتبرة مقارنة بمثيلاتها التي لا تقوم بذلك.
من النقاط الموجودة اليوم التفرقة بناء على العمر، وهذا في نظري موضوع غير ملاحظ، لكنه وارد الحدوث خصوصا في ظل التغييرات الديموغرافية لسوق العمل واحتمالات وجود تباينات واضحة في الأعمار داخل مكان العمل. على سبيل المثال، من المعتاد اليوم وجود عدد كبير من الموظفين صغار السن متوزعين على كامل المنظومة، ويقابله وجود عدد أقل من الموظفين الأكبر سنا، مثلا من تجاوز الـ45 أو 50 عاما. ما يحدث فعليا هو التردد حين التعامل مع الفئة الأقل وجودا، لأن الموظف معتاد على التعامل مع فئة عمرية محددة. فهو مثلا يجد غرابة حين يتعامل مع موظف آخر أكبر منه سنا بفارق كبير، أو يفترض ـ لا واعيا ـ أن العمر يجعل من الشخص غير مطلع على آخر التحديثات أو لا يجيد مهارات محددة. مع أن العمر ليس سببا مباشرا ـ في حد ذاته ـ لاكتساب أو فقد هذه السمات، هناك من الموظفين الأصغر سنا من لا يجيد التعلم ولا يحدث نفسه في مجال عمله، والطبيعي أساسا أن الأكثر خبرة أقرب إلى الحكمة والمهارة والفائدة.
ما يثير التعجب من التحيزات الطفيفة المؤثرة التحيز لأسماء معينة، وهذا مثبت ومشاهد أثناء التوظيف أو التعامل مع أشخاص غير معروفين بشكل شخصي ـ يزداد في التواصل عن بعد. على سبيل المثال، قد يميل من يقوم بعملية التوظيف إلى نوع معين من الأسماء بشكل لا واع، فيصنع تفضيلات محددة لأنواع معينة من الأسماء، سواء بسبب ارتباطها بخلفية معينة لديه أو بسبب تفضيلها صوتيا. وقد لا تدخل ضمن العنصرية المعروفة المبنية على التقصد أو ارتباك القيم، وإنما تحدث بشكل لا واع لأسباب غير محددة. لمقاومة هذا النوع من التحيزات يتم استبعاد المعلومات الشخصية أثناء التوظيف وتعويد الذات على تفادي الافتراض المسبق بناء على عناصر غير موضوعية.
هناك عدد كبير آخر من هذه التحيزات اللاواعية التي تظهر بشكل ناعم ولطيف لا نشعر به، مثل التحيز للجمال، وتأثير الهالة "الذي يوسع من التصورات الإيجابية بشكل مبالغ فيه بناء على سمة إيجابية واحدة، وهو تحيز يحدث بشكل سلبي أيضا، إذ يوسع الشخص من تصوراته السلبية بناء على سمة سلبية واحدة"، وهناك أيضا التحيز للوضع الراهن وهذا معروف وتتناوله إدارة التغيير وقد يحدث أحيانا حتى عند من يقود التغيير، وغيرها كثير من التحيزات المختلفة.
الخلاصة، إن هذه التصرفات المزعجة مؤثرة، وبعضها يندمج مع أفكارنا وأفعالنا بشكل سلس جدا. معرفة أنواع هذه التحيزات مهم جدا لأن تفاديها لا يحدث بشكل جماعي، وإنما لكل تحيز طرق محددة لتفادي الوقوع فيه، وبالطبع جميع هذه الطرق قائم على الوعي بممارساتنا وحوافز هذه الممارسات والتحيزات الواردة في سياقها.