لا انحيازية .. القرار اقتصادي
تعد المملكة العربية السعودية دولة مستقلة بقراراتها وسيادتها ولديها مواقف ثابتة من جميع القضايا العالمية، لا تتدخل في شؤون الآخرين ولا تسمح للآخرين بالتدخل في شؤونها. ومن هذا المنطلق، استطاعت منذ اكتشاف البترول منتصف القرن الماضي، أن تسخر هذا المورد الضخم، لخدمة شعبها ونهضته من الجوانب كافة، وأن تضمن لشعوب الأرض إمدادات كافية مع ضمان حقوق الأطراف جميعها. منذ ذلك الحين شهد العالم أجمع كثيرا من الصراعات على طول جغرافية الكرة الأرضية تقريبا، ولهذه الصراعات تأثيرات متفاوتة في أسعار النفط، وتسببت الصراعات في إيقاف الإنتاج والتصدير من دول ذات مخزونات استراتيجية.
وأدركت المملكة ضرورة وجود مؤسسة ذات طابع دولي تحظى بقبول الجميع بشأن قرارات تنظم السوق البترولية، فشاركت بقوة في إنشاء منظمة "أوبك"، التي عملت طوال عقود عدة على معالجة الاختلالات، رغم وجود دول مهمة خارج "أوبك" قادرة على إحداث تأثير قوي، ومن أجل معالجة الخلل ولأجل استمرار منظمة "أوبك" قائمة، لعبت الرياض في فترات عدة دور التوازن في السوق، وهو ما يكلف الاقتصاد السعودي الكثير. ومع ذلك، فإن الحكمة السعودية كانت قادرة على العودة بهدوء ودونما ضجيج أو إثارة لا معنى لها، لقد كانت ولا زالت تستند على قدراتها الكبيرة في الإنتاج وحاجة الاقتصاد العالمي إليها مع ترك الأسواق تعالج التقلبات الجزئية دون تدخل مباشر، لكن 2014 والأعوام التي تلت ذلك غيرت قواعد اللعبة تماما، وكان الانهيار في الأسعار مع اختلالات واسعة في المعروض بين المنتجين وانتظار البعض الآخر منهم ممارسة السعودية دورها التاريخي في تقليص الإنتاج أملا في استغلال الوضع والفوز بالحصص، وفي هذه الفترة بالذات كان الإنتاج الأمريكي من البترول الصخري يلعب دورا مع دخول الولايات المتحدة للأسواق كمصدر ولأول مرة في تاريخها، وكان واضحا أمام المملكة في ظل عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، وتولي الأمير محمد بن سلمان قيادة الاقتصاد السعودي، أن الدور القديم للرياض كصانع للتوازن لم يعد مناسبا، خاصة أن اليوم لديها رؤية اقتصادية تنموية شاملة وتحتاج إلى تسخير جميع الإمكانات.
وفي هذا الإطار، نجحت القيادة السعودية في مهامها من أجل إصلاح عميق وشامل ومستدام للسوق النفطية، وتكللت تلك الجهود بتأسيس "أوبك +"، ومع دخول روسيا في اجتماعات دول "أوبك"، عقدت عدة اجتماعات لمعالجة اختلالات العرض وانتهت باتفاق جماعي، على ألا تتحمل دولة واحدة تبعات ذلك القرار مع احترام الحصص، ونجحت المملكة وروسيا في تحقيق توازن سريع وعادت الأسعار بسرعة حتى أتت جائحة كورونا مع ما تضمنته من تراجع في النمو العالمي، وإغلاق للموانئ وتوقف تام لسلاسل الإمداد، وانهارت الأسعار مرة أخرى بشكل مخيف، لكن الجهود التي بذلت خلال الأعوام التي سبقت الجائحة وإنتاج "أوبك +" كان لها دور حاسم، وتمت إعادة الاتفاق مع دخول دول عدة في المفاوضات، من بينها الولايات المتحدة والمكسيك في ذلك الحين، تكللت الجهود باتفاق ملزم للجميع بحصص معينة، مع تعويضات للدول التي لم تلتزم لظروف اقتصادية خاصة، فعادت الأسعار إلى مستوياتها في وقت قياسي مقارنة بأي فترة سابقة تراجعت فيها الأسعار، ونجحت الرياض وموسكو معا ومن خلال "أوبك +" في عودة التوازن إلى الاقتصاد العالمي أجمع بالتزامهما معا بالقرارات الجديدة، وهي قرارات من دول عدة منتجة، وليس قرارا فرديا أو ثنائيا بين دولتين، ومن أجل حوكمة فاعلة تم إنشاء لجنة وزارية من الدول تراقب الإنتاج وتدعو إلى اجتماع فوري إذا لزم الأمر.
ومن هنا، فإن الهدف الأساس من إنشاء "أوبك +" هو توحيد قرارات الإنتاج من خلال مرجعية دولية هدفها تحقيق التوازن الكلي للاقتصاد العالمي، ومعالجة الاختلالات في السوق النفطية بشكل عادل دون أن تنحاز إلى أي صراع أو تقلبات مرحلية أو جغرافية، فلم يعد قرارا سعوديا منفردا، ولا قرارات تهدف إلى تحقيق أغراض سياسية، بل هو قرار اقتصادي تؤثر فيه المتغيرات الاقتصادية من كميات وأسعار، ولم يعد للسعودية في هذا المسار أن تلعب دورا مستقلا لتعديل الأسعار أو تحديد الكميات منفردة.
يأتي الاجتماع الأخير لمجموعة "أوبك +" في وقت تاريخي من الخطورة بمكان، فالصراع الروسي - الأوكراني لا يزال قائما، بينما روسيا جزء من اتفاق "أوبك +"، وفي الوقت نفسه هناك تذبذب حاد في أسعار النفط وتقلبات لم تكن تحدث بمثل هذه الحدة من قبل، مع وجود مشكلات مستمرة في سلاسل الإمداد العالمية واستمرار تأثير جائحة كورونا في العالم مع ضعف النمو في الصين ودول أخرى وارتفاع في أسعار الفائدة بالتزامن مع ارتفاع معدلات التضخم، ما أجبر صندق النقد الدولي على تعديل توقعاته بشأن النمو العالمي، كل ذلك كان على طاولة النقاش في اجتماع "أوبك +" الـ45 للجنة الوزارية المشتركة لمراقبة الإنتاج، والاجتماع الوزاري الـ33 للدول الأعضاء في منظمة "أوبك" والدول المشاركة من خارجها، وحضوريا في مقر الأمانة العامة لمنظمة "أوبك" في فيينا. وانتهى هذا الاجتماع بأنه وفي ضوء حالة عدم اليقين حول الاقتصاد العالمي وسوق البترول، والحاجة إلى تعزيز إرشاد سوق البترول العالمية على المدى الطويل، وتماشيا مع النهج الناجح المتمثل في الاستباقية والمبادرة الذي تبنته باستمرار مجموعة "أوبك +"، قررت الدول المشاركة خفض الإنتاج الكلي بمليوني برميل يوميا من مستويات الإنتاج المطلوب في آب (أغسطس) 2022، للدول الأعضاء في "أوبك" والمشاركة من خارجها، وذلك ابتداء من تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، وهذا القرار لم يكن مفاجأة، بل هو إعادة تأكيد لقرارات الاجتماع الوزاري العاشر للدول الأعضاء في "أوبك" والدول المشاركة من خارجها، المنعقد في 12 نيسان (أبريل) 2020، الذي تم تأييده في الاجتماعات اللاحقة بما في ذلك الاجتماع الوزاري الـ19 للدول الأعضاء في "أوبك" والدول المشاركة من خارجها المنعقد في 18 تموز (يوليو) 2021، وتمديد مدة إعلان التعاون حتى تاريخ 31 كانون الأول (ديسمبر) 2023، حسب الجداول المعتمدة في حينها، وبعد انتهاء الاجتماع بنتائجه المتوقعة، أكد الأمير عبدالعزيز بن سلمان، وزير الطاقة، هذا النهج السعودي المحايد منذ البدايات الأولى لإنتاج النفط مرورا بكل الصعوبات حتى الالتزام بالاتفاقيات الدولية، فوجود مجموعة "أوبك +" اليوم ضرورة من أجل "الحفاظ على سوق بترولية مستدامة"، ومن الضرورة بمكان أن تبقى قوة أساسية لاستقرار اقتصاد العالم، خاصة أنها لم تمارس سياسة عدائية تجاه أي طرف أو دولة كما يزعم البيت الأبيض في ردة فعله الانفعالية حول قرار تخفيض الإنتاج. وأن السعودية كما كانت وستبقى تحافظ على التزاماتها تجاه الاقتصاد العالمي، فالأولوية هي لاستقرار السوق التي أثبتت التجارب المؤلمة أنها لا تحتمل المقامرة، خاصة عندما يكون الطلب تحت ضغوط واسعة مع حالة من عدم اليقين غير مسبوقة، وقرارات "أوبك" الاستباقية حافظت على استدامة الأسواق.