«كأنها معي» .. تقنية حداثوية في الكتابة الروائية

«كأنها معي» .. تقنية حداثوية في الكتابة الروائية
تحاول الراوية الإفادة من كل الآليات السردية لتطوير نصها.
«كأنها معي» .. تقنية حداثوية في الكتابة الروائية
تتداخل قيم التغيير مع قيم الحب.
«كأنها معي» .. تقنية حداثوية في الكتابة الروائية
علي خيون

يعيش محترفو الكتابة الأدبية من روائيين وشعراء، حالة من التماهي في الحب، لا تشبه القصص العادية التي نسمع عنها أو نشاهدها، ويكون هناك ذوبان روحي وفكري ونفسي، تنتفي معه كل المعوقات، ويبقى الحب نابضا لعقود وعقود، وغالبا ما يترجم بعمل أدبي، يجسد تفاصيله الدقيقة، ويرسم ملامح ما خلف الكواليس، ليخبر عن علاقة تعبر الهيلة الجسدية وتحاكي عمق الروح.. وسيلة يهرب إليها الروائي أو الشاعر ليخبر عما فاض في داخله من مشاعر، ويعترف - بلسان أبطاله - بأحاسيس اختبرها لفترة ورافقته مدى الحياة.. لكن أن تربط الحب بالوطن والقضية والحرية، فهذا إن دل على شيء فلعله يدل على مدى انصهار الكاتب في تقلبات الحياة التي نعيشها، وإصراره على أن يكون شاهدا بالكلمة على حقبة من تاريخنا قد تغير ملامح المستقبل.
في رواية "كأنها معي" للروائي علي خيون، نلاحظ محاولة واضحة لجمع قيم التمرد مع قيم الحب، قصة متداخلة في أحداثها، متقلبة في فصولها، تروي على لسان بطلته تفاصيل قصة، قد يكون هو بطلها الحقيقي.

الحبكة

تختلف أبطال قصة "كأنها معي"، عن أبطال القصص العادية، ولقد لعب المكان والزمان دورا بارزا في مسار الأحداث، كذلك تطور مجريات العلاقة التي بدأت في بغداد ولم تنته في القاهرة، مرورا ببيروت، فضلا عن أن شخصياتها جاءت من بيئة ثقافية تحكمها سلطة الكلمة والمعرفة. أماني الياسين الحاصلة على دكتوراه في القانون والعلوم السياسية، وخالد الغانم ذاك الفتى الفقير الذي طرده ذات يوم والد أماني شر طردة، أصبح فيلسوفا ورجلا ناضجا غنيا وذائع الصيت، وخليل المنهل صاحب المكتبة، وغيرها من الشخصيات التفصيلية التي جاء ذكرها لإكمال ملامح القصة.
أحبت أماني الفتاة الأرستقراطية المتحدرة من عائلة غنية وراقية، خالد الغانم الرجل الفقير، الحافي، منذ رأته في المتنزه المقابل لدارها، وبدأت تكتب له القصائد والشعر، علم والدها بالأمر، ومنعه من الوجود في مكان قريب من ابنته.. تبدأ معاناة الفراق المفروض، وتقف الفوارق الاجتماعية حاجزا أمام لقائهما، تفرقهما الحياة، بعد أعوام تجمعهما محاولة التغيير بالفعل والكلمة، يعودان ليلتقيا في معرض القاهرة للكتاب، وتشتعل نيران ما انطفأت يوما من جديد، وتبدأ أماني في سرد فصول من حياتها، أمضتها العاشقة الهاربة إلى العلم والثقافة، بحثا عن حبيب حرمت منه.
كل هذه الأحداث ترويها أماني لخليل المنهل صاحب المكتبة، عندما تقوم بزيارته لتعرفه على نتاجها الأدبي الجديد، وتعد هذه الزيارة نقطة البداية للقصة، أو ما يعرف في اللغة الأدبية بنقطة شروع الحدث الروائي، نبدأ بالتعرف إلى أماني الياسين بطلة الرواية، "ابنة بغداد الأبية، ذات اليسر والعافية"، تحمل شهادة، وصاحبة مؤلفات أكاديمية مرموقة، تدرس في كلية العلوم والسياسة، وترأس أحد أقسامها. مطلقة من طلال طوبان الشدهان التاجر المعروف، لكنها ما زالت تحمل خاتم زواجها.
تفاصيل العلاقة والحب والأشعار والرسائل، تفيض من أماني على مسامع خليل، تلخصها في كتاب، تخبره عنه، قبل أن تأخذنا فصول الرواية إلى مكان آخر، إلى ساحات تشرين في بيروت وبغداد، حيث يجتمعان على مفاهيم واحدة، وإلى معرض الكتاب في القاهرة، حيث يلتقيان بعد فراق طويل.

رواية داخل رواية

خصص الكاتب علي خيون في رواية "كأنها معي"، الجزء الثاني من الرواية المؤلفة من ثلاثة أجزاء، للحديث عن أماني الياسين، بطلته التي تروي في هذا الجزء موضوع روايتها "غنى القلوب"، التي تتحدت عن تجربة شخصية مرت بها، وعن تفاصيل علاقتها بخالد الفقير وحبها الكبير له.. وهذا النوع من التداخل يسمى "ميتاسردية"، أي إدخال قصة داخل القصة الرئيسة، فتصبح الشخصية الرئيسة في الرواية هي الراوي نفسه. وفي حوارها مع المكتبي خليل قالت أماني "كتابي حجر جريء أردت أن ألقيه في بركة ساكنة، لكي تتحرك"، وبالفعل حرك هذا الحجر "الكتاب" المياه الراكدة وأشعل نيران الحب بينها وبين خالد، في لقاء ظاهره ثقافي وفلسفي وأدبي، لكن باطنه قصة رومانسية خاطفة، لم يعف عليها الزمن، قصة داخل قصة، والرسالة واحدة.

جوهر الأماكن "بين بيروت وبغداد"

لا تدور أحداث الرواية في فترة زمنية محددة ولا في مكان معين، ويشكل هذا التنقل بين بيروت وبغداد والقاهرة تطورا ملحوظا في نمط حياة الأبطال والمراحل التي قطعوها. وكذلك الانتقال من حالة إلى أخرى داخل السرد نفسه، يمنح القصة أبعادا ثقافية مختلفة، كزيارة أماني للمنطقة الشعبية الفقيرة التي كان يقيم فيها خالد الغانم وأسرته، وكذلك شراء المكتبي خليل المنهل مكتبة أماني ونقلها إلى مخزن قريب من شارع المتنبي، قبل أن يكتشف أن أحدا يلقب بـ"المسلول" قد سرق كتبه، وبدت مكتبته فارغة من الكتب، تسكنها عائلة فقيرة، راضي الراضي الأب وزوجته رضية وأولادهما، الذي طرد بدوره من منزله الذي هدم كي يبنى مكانه مركز تجاري، ولم يجد أمامه سوى هذه المكتبة الفارغة مأوى يحميه وعائلته من التشرد، وعلاقة راضي بالدكتور خالد الغانم، الذي حرضه على التمرد ودعاه إلى ساحة التحرير ليطالب بحقوقه، كل هذه التفاصيل المتداخلة والتفاوت الاجتماعي البارز كان لهما دور في دمج التفاوت الطبقي داخل المجتمعات، وكيف يمكن أن يتحول إلى محفز حقيقي لتحقيق النجاح ومحرك أساسي لتحقيق التغيرات المجتمعية المحقة.

بين الواقع والخيال "الميتافكشن"

كي تكون الرواية رواية كما وصفها عدد من الروائيين، "الفن الذي يقف بين شغف الإنسان بالحقائق وحنينه الدائم إلى الخيال"، يجب أن تجمع بين الواقع والخيال، وبقدر ما تقرب المسافة بينهما بقدر ما تصل إلى المتلقي وتلقى رواجا، وذلك لأن الإنسان بطبعه يميل إلى البحث في المستحيل عن المستحيل.. وقد نجح - بحسب رأي النقاد - الروائي علي خيون في رسم الواقع بصورة جمالية تلامس صورته الأصلية مع مسحة فنية للخيال، من خلال إظهاره كتابة الرواية على طريقة الميتافكشن، وهي طريقة حداثوية جديدة ظهرت لدينا في الكتابة الروائية الحديثة، يتكفل فيها الراوي برواية أحداث حياته، ويجري التركيز فيها على المجال الذي تتميز فيه شخصيته الحيوية، وتحاول الراوية باتباع هذه الطريقة الإفادة من كل الآليات السردية لتطوير نصها.
يختتم علي خيون روايته "كأنها معي" بصورة فيها كثير من الرومانسية الهادئة والتمرد النابض، وكأنه يطلب منا أن نغوص في أسئلة أكثر وجودية، ونتأمل في قيم الحب والتمرد والجمال.. تتداخل قيم التغيير مع قيم الحب، وكأنه يريدنا أن نوقن بأنه زمن التغيير، ولعلها - أي بطلته أماني - استمدت قوتها من مخزون الحب، الذي تسجنه في داخلها منذ عقود.

الأكثر قراءة