الشحن والسلع واتجاهات الأسعار
تشهد حركة نقل حاويات الشحن انتعاشا، أدى إلى تقليل الازدحام الذي شهدته خلال فترة جائحة كورونا، كما انخفضت أيضا أسعار الشحن، ما يصب في اتجاه تراجع العقبات التي عرقلت سلاسل التوريد العالمية، وأظهرت أحدث بيانات أن أسعار الشحن استمرت في الانخفاض مع تباطؤ أحجام التجارة العالمية نتيجة لتقلص الطلب على السلع. وانخفضت أسعار الشحن أيضا لتخفيف اضطرابات سلسلة التوريد التي تراكمت بسبب وباء كورونا، وكان كثير من التباطؤ في الطلب على الحاويات والسفن لضعف حركة البضائع، وقد كان انخفاض مستوى الازدحام في الموانئ، إلى جانب ضعف وصول البضائع، أحد الأسباب الرئيسة وراء الانخفاض الكبير في أسعار الشحن، واستنادا إلى توقعات ضعف حجم التجارة، فإنه لا يتوقع ازدحام مرتفع للغاية مرة أخرى خلال الفترة المقبلة. إن أسعار الشحن للحاويات والمواد السائبة الجافة أو السفن التي تحمل المواد الخام والسلع السائبة تراجعت خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وبلغت المعدلات ذروتها في وقت أبكر مما كان متوقعا في الربع الثاني.
ويتوقع أن تشهد الفترة القليلة المقبلة انخفاضا وصف بـ"الكبير جدا"، على أسعار عديد من السلع في الأسواق المختلفة، خاصة السلع المقبلة من الصين، نتيجة تراجع مفاجئ في أجور شحن الحاويات المقبلة من شرق آسيا وبـ80 في المائة، وكانت أسعار نقل الحاوية الواردة من الصين إلى مناطق البحر الأحمر، ارتفعت مع جائحة كورونا إلى 12 ألف دولار، وبدأت بعد التعافي من الجائحة في الانخفاض التدريجي إلى أن وصلت 80 في المائة، أي ما يعادل أقل من 2500 دولار. وإذا قمنا بالبحث عن الأسباب الأساسية وراء تراجع أسعار الشحن، ولا سيما الحاويات، يعود السبب الأول إلى التباطؤ الحاصل على ساحة الاقتصاد العالمي ككل، إضافة طبعا إلى دخول بعض الدول في دائرة الركود، بينما تستعد الاقتصادات المتقدمة لدخول هذه الدائرة بحلول العام المقبل. وقبل الأزمة الاقتصادية الحالية، كانت الأعمال تعاني ارتفاعات في أسعار الشحن، ما أثر سلبا في أسعار السلع، التي بلغت حدودا غير محتملة في كثير من الدول. ومع ذلك، فقد كان النمو آنذاك يغطي على زيادة تكاليف الشحن، في الوقت الذي كان فيه التضخم تحت السيطرة في أغلب الدول. ورغم أن انخفاض هذه التكاليف، ينبغي أن يسبب انفراجا عالميا، إلا أنه أتى في وقت الأزمة التي يبدو أنها مستمرة حتى منتصف العقد الحالي على الأقل، مع الفشل الواضح في السيطرة الحقيقية على الموجة التضخمية.
لكن تبقى هناك دول تحقق عوائد كبيرة من تراجع أسعار الشحن، وفي مقدمتها السعودية، التي قدرت أسعار شحن الحاويات المقبلة إليها بنسبة تصل إلى ما بين 50 و70 في المائة، وسط ترقب لانخفاض أسعار السلع والخدمات تلقائيا. ووفق الأرقام الرسمية، فقد سجلت أسعار الشحن البحري عبر السفن التي تحمل المواد الخام والبضائع تراجعا يراوح ما بين 50 و70 في المائة، مقارنة بالأسعار السابقة، التي سجلت زيادة للشاحنة الواحدة آنذاك من ألفي دولار إلى 12 ألفا. ولا شك أن أسعار السلع ستشهد في الفترة القصيرة المقبلة انخفاضا مطلوبا بالفعل في هذا الوقت بالذات، بينما تعاني أغلب الدول ارتفاعات هائلة في الأسعار عموما، تحت ضغط التضخم الذي بلغ في عدد من الدول المتقدمة الخانة العشرية. ولذلك السؤال المطروح والملح هنا أنه بموجب انخفاض أسعار شحن الحاويات، لا بد أن ينعكس هذا الأمر تلقائيا ومباشرة على أسعار السلع في الأسواق والخدمات المهمة الأخرى.
بالطبع ستكون هناك نتائج إيجابية في ميدان الأسعار في كل مكان، إلا أن نسب الانخفاض ستختلف من بلد إلى آخر، بحسب الوضعية الاقتصادية لكل دولة، وعمق المشكلات الاقتصادية التي تواجهها في الوقت الراهن. وأسعار الشحن لم تنخفض فجأة في الواقع. فهي آخذة في التراجع منذ مطلع العام الجاري، لكنها زادت وتيرتها في أعقاب تعمق الموجة التضخمية، واستفحال الحرب الدائرة في أوكرانيا. فهذه الأخيرة قادت التضخم إلى مستويات لم يتوقعها أحد، في الوقت الذي لا توجد فيه مؤشرات تدل على إمكانية أي حل سياسي للمواجهة العسكرية الأخطر في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وإذا ما استمر الوضع العالمي على ما هو عليه حاليا، فإن أسعار الشحن ومعها بالطبع أسعار السلع والخدمات ستواصل التراجع، الأمر الذي يمنح شيئا من الدعم في مكافحة التضخم بصورة غير مباشرة.
العالم يحتاج الآن وليس غدا، إلى سلع أقل تكلفة بصرف النظر عن طرق خفضها، لكن هذا لا يضمن في النهاية اقتصادا متعافيا على الإطلاق. فالتباطؤ هو المسيطر على المشهد العالمي في الوقت الراهن، والركود الآتي سيزيد الأمر تعقيدا. ومن هنا، فإن تراجع أسعار الشحن ستخفض أسعار السلع التي ارتفعت في أعقاب الانفراج الذي حدث بعد الانتهاء من جائحة كورونا، لكن المهم هنا، مستوى القدرة الشرائية في هذا البلد أو ذاك. وستبقى تكاليف الشحن منخفضة، وربما تشهد مزيدا من التراجع في الفترة المقبلة، نتيجة ركود نمو التجارة العالمية ككل، وهذه الأخيرة تعيش أصلا "بصرف النظر عن المسببات الحالية للركود الاقتصادي" توترات على مدى الأعوام التي سبقت كورونا، وبلغت حدود المعارك التجارية. لكن في النهاية، كل انخفاض في تكاليف الشحن، يمثل دعما مطلوبا للمستهلك من خلال تراجع أسعار السلع في الأسواق، الذي يعاني أسوأ موجة تضخم، تقودها أسعار الطاقة.