ميزانية ضربت أصحابها
"كان علينا اتخاذ إجراءات عاجلة لتنشيط اقتصادنا والتعامل مع التضخم"
ليز تراس، رئيسة وزراء بريطانيا
يبدو أن اعتراف رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس، بأنها ووزير ماليتها كواسي كوارتينج أساءا التعامل مع إعلان التخفيضات الضريبية غير الممولة، لن يهدئ أعضاء حزب المحافظين الحاكم الغاضبين، الذين يجتمعون لخمسة أيام في مدينة برمنجهام، في المؤتمر السنوي للحزب. الميزانية التي تضمنت الخفض التاريخي، التي توصف بـ"المصغرة" أو التكميلية، لم تكن كذلك على الإطلاق، لأنها قلبت الأوضاع في اليوم التالي لإعلانها. هزت السوق المالية، ودفعت القروض السكنية بقوة إلى دائرة الخطر، وضربت قيمة الجنيه الاسترليني الذي سجل أدنى مستوى له أمام العملات الرئيسة منذ أكثر من نصف قرن. وفوق هذا كله، أظهرت السوق المالية عدم ثقتها بالحكومة التي أتت للحكم قبل أقل من شهر فقط! لم تفعل التطمينات شيئا على صعيد استعادة الثقة، في وقت تمكن فيه حزب العمال المعارض من قلب الطاولة رأسا على عقب، بحصوله على تأييد تاريخي مرتفع في استفتاءات الرأي المختلفة.
في ظل ما يمكن وصفه بالفوضى الاقتصادية، ما كان أمام بنك إنجلترا المركزي إلا التدخل لشراء سندات الحكومة بأكثر من 65 مليار استرليني. هدأت السوق قليلا بعد هذه الخطوة النادرة جدا، لكن المخاوف ظلت سائدة على الساحة، خصوصا بعد إعلان غير مسبوق لصندوق النقد الدولي، يطالب حكومة ليز تراس، بإعادة النظر في بنود الميزانية التكميلية، ولا سيما البند الخاص بالخفض الضريبي الذي بلغ 45 مليار استرليني. لم يسبق لهذه المؤسسة الدولية أن تدخلت في ميزانية تخص دولة في مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى! لكن مبررات الصندوق، أنه يريد من الحكومة البريطانية أن تحمي الاقتصاد أكثر على جبهة التضخم القاسي، ولا يتم ذلك عبر تخفيضات ضريبية سيستفيد منها أصحاب الدخل المرتفع، وإن تضمنت الميزانية بعض البنود الداعمة لأصحاب الدخول المنخفضة.
لا تريد ليز تراس أن تعتذر، كما أنها لا ترغب في مراجعة الميزانية المشار إليها، على الرغم من تهديدات وصلت إليها بالفعل من قبل عدد من نواب حزبها، بعدم التصويت على الميزانية في مجلس العموم، عندما تعرض عليه بعد عودته إلى الالتئام. وهذا يعني، أن تراس تواجه تمردا بعد أيام فقط من زعامتها حزب المحافظين، وهو أيضا أمر غير مسبوق في التاريخ السياسي البريطاني. المشكلة، أن رئيسة الوزراء لا تزال مقتنعة بأن خفض الضرائب دون وجود مصدر لتمويلها، سيؤدي حتما إلى تحرك عجلة الاقتصاد، وبالتالي تحقيق النمو الذي سيمول بالضرورة هذه التخفيضات. لكن الأمور لا تجري هكذا، عندما يكون الوضع الاقتصادي متدهورا أصلا، وتحت تأثير موجة تضخمية محلية عالمية لا تتوقف. وهذا ليس صعبا على الفهم. فمنافسها في انتخابات زعامة الحزب ريشي سوناك، حذر خلال حملته الانتخابية عدة مرات من خفض الضرائب غير الممولة، بل قال بالحرف، إن السوق ستفقد الثقة بالحكومة، وهذا ما حصل بالفعل.
الوضع الاقتصادي العام في المملكة المتحدة في ورطة حقيقية، يتفق مع هذا التوصيف بعض أركان الحزب الحاكم نفسه، فضلا عن أحزاب المعارضة التي عدت أن الميزانية المثيرة للجدل، كانت كافية لعودة البرلمان إلى الانعقاد في جلسات طارئة، تماما مثلما يحدث خلال الأزمات الكبرى، كالحروب والكوارث وغير ذلك. ولأن الوضع بهذه الصورة، فليس غريبا أن تكون هناك انتخابات عامة مبكرة، سيفقد فيها المحافظون أعدادا كبيرة من مقاعدهم في مجلس العموم، وفق كل الاستطلاعات. وهذه الانتخابات ليست في أيدي المعارضة بالطبع. فعلى الحكومة المستهدفة أن تمرر تشريعا بها في البرلمان، يتطلب أغلبية برلمانية "وليست شعبية" لن تكون متاحة بسهولة، إلا إذا توسع نطاق التمرد الصامت الحالي لعدد من نواب الحزب الحاكم في مجلس العموم. ومن المشكلات الأخرى التي تواجهها حكومة تراس، أنها حتى لو قررت الاعتذار أو تعديل الميزانية أو إلغائها تماما، فهي لن تستعيد ما فقدته من ثقة الأوساط الاقتصادية، فضلا عن أولئك الذين أعطوا أصواتهم لوزير المالية السابق سوناك، الذي خسر بفارق بسيط أمام تراس في انتخابات زعامة الحزب خلفا لبوريس جونسون. الاقتصاد البريطاني الآن، يعد من حيث الأداء الأسوأ بين دول "مجموعة السبع". وإذا وصلت تراس إلى رئاسة الوزراء عبر طرد سلفها جونسون لأسباب تتعلق بكذب الأخير المتواصل، وتجاوزه القوانين التي يصدرها هو شخصيا، فإن رئيسة الوزراء الجديدة، ستواجه مصاعب كبيرة في الاحتفاظ بزعامة الحزب الحاكم من الناحية الاقتصادية، بل لنقل من جهة التشريع الاقتصادي غير الموفق، كان من الممكن تجنبه لو أنها تحلت بالمرونة في فهم ربط الضرائب المنخفضة بالنمو. لكن أهم نقطة حاليا، هي تلك التي تتعلق بمدى قدرة حكومة جديدة على استعادة ثقة السوق المالية. فهذه الأخيرة لا يهمها رفع أو خفض الضرائب، بقدر ما يهمها طبيعة مصادر التمويل، والسيطرة على الاقتراض الحكومي. وهذا أمر ليس حاضرا على الساحة حاليا، ولن يكون كذلك إلا إذا تراجعت الحكومة بالفعل عن ميزانية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلاد الحديث.