كلام الليل يمحوه «الشتاء»

في مطلع عام 2018 كتبت مقالا بعنوان "الأمواج الإعلامية لن تغرق النفط"، ذكرت فيه أن هناك مبالغة كبيرة من بعض وسائل الإعلام العالمية عموما ومن وسائل الإعلام الغربية، على وجه الخصوص، حول قرب ساعة الاستغناء عن النفط. وضحت أن هذه المبالغة غير الموضوعية جاءت على هيئة أمواج إعلامية عاتية واحدة تلو الأخرى، تشعر المهتم والمطلع على دهاليز الطاقة وكأنها أمواج منسقة ومن مطبخ إعلامي واحد. تارة عن اكتساح الطاقة الشمسية الأسواق، وتارة عن تطور نوعي غير مسبوق لطاقة الرياح التي ستخلص العالم من رحمة النفط، أو بتضخيم غير منطقي للسيارات الكهربائية، وأن العالم سيستغني عن الوقود المستخلص من النفط قريبا.
يجب التوقف كثيرا عند مفهوم أمن الطاقة العالمي وتدبره بعين العقل والحكمة، حيث إن استقرار أسواق الطاقة وسلامة إمداداتها وصحة شرايينها، هي في الحقيقة أمن اقتصادي واجتماعي لجميع دول العالم، وأن العلاقة بين مصادر الطاقة علاقة تكاملية من منظور شمولي، لا علاقة صفرية تلغي بالضرورة أحد هذه المصادر أو تهمش المصادر الأخرى أو بعضها. هناك تباين واضح في التعاطي مع مستقبل الطاقة ورحلة تحولها، فنجد من ينادي ويدعم بكل الطرق التخلص من الوقود الأحفوري، وعلى رأسه النفط، في أسرع وقت، بل التوقف الفوري عن الاستثمار في صناعته وفي أنشطة الاستكشاف والتطوير، وفي المقابل هناك من يغفلون تماما أهمية تحول الطاقة، بل يدفعون نحو تقويض صناعة الطاقة المتجددة والنظيفة.
أوروبا أو بعض دولها على رأس الدول التي تصدرت موضوع تقويض الطاقة الأحفورية، ومنها النفط والفحم، بذريعة حماية البيئة من التلوث والاحتباس الحراري وآثاره المدمرة على كوكب الأرض، لكن هل الواقع أثبت أن هذا التوجه لم يكن إلا تنظيرا من منابر المؤتمرات؟ ملامح أزمة للطاقة وإرهاصاتها بدت جلية لدول أوروبا، التي تحاول جاهدة وضع خطط طوارئ - من وجهة نظري - قبل دخول فصل الشتاء بسبب الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، التي ألقت بظلالها على شرايين الطاقة الروسية التي تغذي أوروبا بالنفط والغاز. بعض الدول أخطرت بعض المدن عن وجود عجز متوقع في فصل الشتاء قد يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي عن بعض الأجزاء، ودول أخرى بدأت برامج توعوية مكثفة لحث المستهلكين على الترشيد خلال فصل الشتاء لشح الإمدادات، وأخرى بدأت منذ زمن التملص من اتفاقيات الاتحاد الأوروبي والعقوبات على النفط الروسي.
هذا الاستنفار قبل فصل الصيف هو استنفار متوقع وستزداد وتيرته كلما قرب دخول فصل الشتاء، وقد نرى إجراءات وقائية أكثر قوة. صدمت أوروبا ومن ينادون بحماية البيئة وتهميش الوقود الأحفوري بالواقع، فأخرجوا بكل تناقض النفط من قفص الاتهام، بل استقبلوه بالأحضان، بل عادت بعض محطات توليد الطاقة من الفحم إلى العمل لتعويض بعض من شرايين الطاقة الروسية قبل دخول فصل الشتاء، وكأن لسان حالهم يقول "كلام الليل يمحوه الشتاء".
في رأيي، إن أوروبا لا مناص لها عما قامت به كحلول آنية لأزمة الطاقة التي تمر بها، لكنني أتمنى أن تعي أن هذه الحلول هي حلول مؤقتة، ويجب أن تراجع مواقفها ضد النفط وتقويض الاستثمار فيه، قبل أن تواجه في المستقبل القريب أزمة حقيقية لن تجدي معها الحلول الآنية، وستكون أول من يكتوي بأسعار مرتفعة للطاقة ومنتجاتها!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي