ليس غشا فحسب

أصبح الغش والتقليد في السلع والمنتجات التجارية بجميع أنواعها ظاهرة عالمية خطيرة واسعة الانتشار، ولذلك من الضروري أن تتضافر جميع الجهود للتصدي لها لحماية المجتمعات والمحافظة على الاقتصادات الوطنية. الملاحظ أن سوق البضائع المقلدة أصبحت تنمو بنسب كبيرة وتصل إلى أرقام مخيفة تهدد الأسواق والمنتجين، ويرجع انتشارها إلى عوامل متنوعة، منها الأسباب المترتبة على نقص موازنة عديد من الأفراد، ما يؤثر في قدراتهم الشرائية ولجوئهم إلى القطع والسلع الرخيصة. ومن المعروف أن مرتكبي هذه الجريمة المنظمة شبكة ذات فروع متشعبة وبطبيعتهم انتهازيون ويتمتعون بمهارة عالية في استطلاع الأساليب التقنية واكتشاف طرق استخدامها، لاستغلالها في إحداث ثغرات في الأسواق للدخول إليها، وتوزيع منتجاتهم الرديئة. ومن هذا المشهد السيئ أصبحت أخبار الغش والتقليد وطرقه المختلفة دائبة ونشطة في جميع أنحاء العالم خلال العقود الثلاثة الماضية. كما أدت أساليب استخدام تلك الطرق سواء التقنية منها أو غيرها، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، إلى جذب زبائن بقوة شرائية كبيرة، ما تسبب في نشوب حروب تجارية بين الدول، وتزايدت بسببها الجرائم المنظمة وتحطمت نتيجتها شركات كثيرة. ولعل أحد أعظم الاتجاهات المزعجة تزايد مستوى التعقيد في هذه الصناعة القاتلة، حيث طرأت تغييرات في الإنتاج والتغليف والتوزيع، فمثلا يصعب في هذه الأيام على أصحاب المصانع أن يميزوا بين البضائع الأصلية ونظيراتها من البضائع المقلدة بالعين المجردة.
ومن هنا أصبح الغش والتقليد في السلع والمنتجات الأصلية مفهوما معقدا، لكونه يتضمن عدة قضايا معا، فهو يعني تقليد العلامات التجارية، وقد يعني بيع سلع منتهية الصلاحية، أو غير صالحة للاستهلاك والاستخدام، أو مخالفة الشروط والمواصفات الفنية، لكن ما يجمع هذه القضايا معا هو تضليل المستهلك الذي يعد إحدى أهم المشكلات الاقتصادية التي تواجه العالم أجمع. كما يتسبب الغش التجاري في انتهاك الملكية الفكرية، ولهذا تتم مناقشته من خلال مفهوم انتهاك الملكية الفكرية ليتجاوز معنى التقليد، ويشمل القرصنة، ونسخ المنتجات دون موافقة صاحب الحق، ومن المهم الإشارة إلى أن مفهوم الغش الذي يتضمن خداع المستهلك وتضليله، يشتمل أيضا على الاحتيال بوعود كاذبة، وادعاءات غير دقيقة، ومن ذلك الإعلانات الكاذبة، التي تصل إلى قطاعات متنوعة مثل العقار والرهن العقاري. لهذا، فإن معظم الصناعات في العالم تخسر مليارات الدولارات سنويا بسبب هذا النوع من التحايل، إضافة إلى تعرض المستهلكين للخسارة من جراء خداعهم بأنهم اشتروا سلعة أصلية، وقد تكون حتى غير صالحة للاستخدام، مع ما يسببه هذا من أضرار وفقدان الثقة.
ولا تقف الخسائر الاقتصادية عند هذا الحد، بل تصل إلى الحكومات، من خلال رفع تكلفة إجراءات حماية المستهلك، وحماية حقوق الملكية الفكرية والتحقيقات والدعاوى المكلفة، فهذا النوع يعد من أنواع الاقتصاد الخفي الذي يسهم في زيادة الهدر الاقتصادي بسبب إجراءات كان يمكن تفاديها، حتى عندما يعتقد بعضهم أن السلع المقلدة أقل تكلفة من السلع الأصلية، فإن الأولى لا تهتم بالجودة، وبالتالي قد يتعرض المستهلك لخسارة فادحة في قضايا أخرى ذات علاقة، ومن ذلك التعرض للحوادث الخطيرة عندما تنتشر السلع الكهربائية الرديئة.
ووفقا لتقديرات اتحاد مكافحة القرصنة BASCAP التابع لغرفة التجارة الدولية، من المتوقع أن تصل الخسائر الاقتصادية والاجتماعية هذا العام، الناتجة عن عمليات الغش التجاري، والاحتيال، والتزوير، والقرصنة إلى 4.7 تريليون دولار على مستوى العالم، ويكلف الغش التجاري وحده أكثر من 500 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل صافي الخسائر في الوظائف من 4.2 إلى 5.4 مليون، وقد أجرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ومكتب الاتحاد الأوروبي للملكية الفكرية EUIPO، سلسلة من الدراسات التحليلية نشرت نتائجها في مجموعة من التقارير، بدءا من تقرير التجارة في السلع المقلدة والمقرصنة لـ2016. وأوضحت أن تجارة السلع المقلدة والمقرصنة بلغت 2.5 في المائة من التجارة العالمية في 2013، وفي 2016، بلغت نحو 3.3 في المائة من التجارة العالمية، وما يصل إلى 6.8 في المائة من واردات الاتحاد الأوروبي، وتعد الأحذية هي أكثر فئات المنتجات المقلدة، تليها الملابس والمصنوعات الجلدية والإلكترونيات والعطور ومستحضرات التجميل.
تضاعفت عمليات ضبط العطور ومستحضرات التجميل والألعاب المقلدة بأكثر من الضعف بين 2016 و2019، ووفقا لما نشرته تقارير رسمية، فقد بلغت خسائر الأمريكيين أكثر من 5.8 مليار دولار بسبب الاحتيال في العام الماضي، ارتفاعا من 3.4 مليار دولار في 2020 بزيادة أكثر من 70 في المائة، وقدم نحو 2.8 مليون مستهلك بلاغات عن الاحتيال، وتشير التقارير العالمية إلى أن الغش التجاري قد تزايد خلال جائحة كورونا، حيث استغل المحتالون خوف المستهلك والارتباك، من أجل بيع منتجات صحية مزيفة مثل معقم اليدين والأقنعة. كما تشير الإحصاءات إلى أن عمليات الاحتيال التجارية والإيهام بفرص العمل تكلف الضحية نحو ألفي دولار في المتوسط.
ويشير موقع "الإنتربول" إلى أن التجارة العالمية في المستحضرات الصيدلانية غير المشروعة قد أصبحت منطقة جريمة شاسعة ومربحة تقدر قيمتها بنحو 4.4 مليار دولار، تجذب مشاركة جماعات الجريمة المنظمة في جميع أنحاء العالم.
وخلال أسبوع واحد فقط في حزيران (يونيو)، شنت 94 دولة عضوا في الإنتربول تمثل كل قارة، حملة قمع منسقة ضد صيدليات الإنترنت غير المشروعة، وتم تنفيذ أكثر من 7800 عملية لضبط أدوية ومنتجات رعاية صحية غير مشروعة وذات علامة تجارية خاطئة، بلغ مجموعها أكثر من ثلاثة ملايين وحدة فردية. وهكذا فإن المتورط في هذه الجريمة لا يردعه شيء، ولا يهتم بصحة الإنسان ولا بالأثر الخطير لمثل هذه التجارة المحظورة عالميا، كما أن هذا الوضع يقع ضمن ما يسمى بالاقتصاد الخفي، الذي لا يمكن رصد حجمه الحقيقي، نظرا إلى أن المتورطين في مثل هذه التجارة لا يفصحون عنها في السجلات الاقتصادية، ولذلك يصعب تقدير حجم دقيق لهذه التجارة، ومع ذلك ومن خلال تتبع الدراسات والتقارير العالمية، فإن هذه التجارة تنمو من عام إلى آخر، وتستغل كل الظروف حتى الأزمات الصحية، ولا بد معها من جهود عالمية أكبر. وعدم التساهل في ذلك لمكافحة هذه الجريمة. إن انتشار ظاهرة المنتجات المزيفة في المجتمع، من شأنه أن يؤدي إلى حدوث أضرار صحية بالغة على البيئة، نظرا إلى عدم مطابقة المنتج للمواصفات والمقاييس المتعلقة بالبيئة، كما أنه يشكل عبئا على الدولة في معالجة أضرار هذه المنتجات، وطرق إتلافها بأساليب مختلفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي