السيارات وأسعارها .. تراكمات احتكارية

حققت صناعة السيارات تحولا جذريا خلال أقل من قرن، فبعد أن كانت تصنع للأثرياء فقط تحولت لتصبح في متناول الجميع تقريبا، هذا التحول يرتكز على إتاحة السيارات لجمهور كبير جدا من خلال السوق الثانوية، حيث يمكن إعادة بيع السيارة المستخدمة، وقد نجحت هذه الأسواق العالمية في هذه الصناعة بالذات، نظرا إلى توافر سوق ضخمة موازية لقطع الغيار. وتشير الدراسات إلى أن سوق خدمات ما بعد البيع في العالم تجاوزت 721.2 مليار دولار في 2021 ومن المتوقع أن تتجاوز 1167.09 مليار دولار بحلول 2030، وأن تنمو بمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 5.49 في المائة خلال الفترة المتوقعة من 2022 إلى 2030. وخدمات ما بعد البيع للسيارات تشمل قطاعات كبيرة من بينها قطاع التجزئة "تجار الجملة والموزعون وتجار التجزئة" لكثير من أجزاء السيارات القابلة للاستبدال مثل البطارية، الإطارات، المرشحات، وأجزاء الفرامل، كما تشمل قطاع التصنيع والإصلاح. فهي سوق ضخمة للغاية توفر وظائف لأكثر من 15 مليون شخص من بينهم أكثر من ثمانية ملايين شخص يعملون في الصين، وتشير بعض الدراسات المتفائلة إلى أن نمو إيرادات بيع السيارات "السوق الأولية وخدمات ما بعد البيع" قد يتجاوز 5.2 تريليون دولار، والسعودية تشهد نهضة اقتصادية شاملة، ولذلك فإن الطلب يتنامى على مكونات ما بعد البيع للسيارات. وبحسب الإحصائيات، فإن خدمات ما بعد البيع وقطع الغيار في سوق السيارات في المملكة العربية السعودية بلغت 6،49 مليار دولار "24،3 مليار ريال" في 2021، ومن المتوقع أن تتجاوز تسعة مليارات دولار "35 مليار ريال" في 2027 ارتفاعا من معدل نمو سنوي مركب 6،43 في المائة. فالمملكة اليوم واحدة من أكبر الاقتصادات نموا في العالم، ونظرا إلى مساحتها الجغرافية الكبيرة مع توافر بنية تحتية مميزة للطرق الحديثة، فإن مبيعات السيارات وخدمات ما بعد البيع مرشحة لمزيد من النمو، خاصة مع توسع المملكة في صناعة السياحة العالمية التي من المتوقع أن يصل عدد السياح فيها إلى أكثر من مائة مليون سائح سنويا. علاوة على ذلك، فإن الظروف المناخية تزيد من وتيرة تغيير عدد من أجزاء السيارات مثل مرشحات الهواء والزيت بشكل متكرر، وبالتالي دفع إضافي لنمو سوق خدمات ما بعد البيع في المملكة العربية السعودية.
هذه الصورة الشاملة لهذا القطاع الاقتصادي المهم تضعنا أمام ضرورة إصلاح هيكل هذا القطاع قبل أن يصبح عائقا أمام النمو الاقتصادي الشامل في السعودية، وأمام تحقيق مستهدفاتها، خاصة أن التقارير المحلية تشير إلى أن هذه السوق تقع تحت سيطرة شركات قليلة تمارس سلوكا احتكاريا سواء في بيع السيارات أو في خدمات ما بعد البيع، كما امتد هذا السلوك إلى السوق الثانوية التي بدأت تظهر فيها أنشطة احتكارية من خلال الاتفاق مع المورد الرئيس وتحديد أسقف للبيع. كل هذا ورد في دراسة للهيئة العامة للمنافسة بعنوان "دراسة هيكل قطاع بيع السيارات وخدمات ما بعد البيع وقطع غيار السيارات وأثر سلوك المنشآت العاملة فيه في المنافسة"، وقد انتهت هذه الدراسة المهمة إلى وجود أدلة علمية بشأن ممارسات احتكارية تؤثر في ظروف المنافسة في الأسواق المعنية، من بينها وجود اتفاقيات التوزيع الحصرية المبرمة بين مصنعي المعدات الأصلية وشركاء التوزيع المحليين بما يمكن من إيجاد حواجز أمام دخول المنافسين. ومن ذلك أيضا وجود ما يمسى بالاستخدام التعسفي لتراكم رأس المال من حيث التوسع في العلامات التجارية، حيث قد يدعي الموزعون أن كل علامة تجارية يمثلونها تعد منفصلة تماما عن العلامات التجارية الأخرى، ما يجعل السوق تظهر بشكل تنافسي بينما هي الواقع أكثر تركيزا واحتكارا، خاصة أن السوق - وفقا لدراسة الهيئة - تفتقر إلى الشفافية، وهو الأمر الذي امتد إلى المناقصات مع عدم وضوح آليات التقييم والترسية للمناقصات، ما يؤدي إلى تقييد المنافسة. لقد ساعدت هذه الظواهر الهيكلية في السوق على منح وكلاء السيارات وضعا مهيمنا، مكنهم من فرض شروط تعسفية وقيود إذعان على المشترين بإلغاء ضمان السيارات عندما يتم إصلاحها في ورش مستقلة، ذلك أن خدمات ما بعد البيع تحقق لهم أرباحا أعلى من مبيعات السيارات، وهذا السلوك الانتهازي وصل إلى حد تقييد توريد قطع الغيار ومنع وصولها إلى موزعين منافسين مع حجب المعلومات الخاصة بالإصلاح. ولا شك أن كل واحد من هذه الموضوعات التي تصف السلوك الاحتكاري في السوق كاف، لكي يجعل الجهات ذات العلاقة تتدخل بصورة عاجلة، من أجل معالجة وإصلاح هيكل هذه السوق. فكما أشرنا، إن لهذه السوق أثرا واسعا في الاقتصاد السعودي بشكل مباشر، كما أنها تعد واحدة من ضمن أكبر القطاعات الاقتصادية توظيفا للأيدي العاملة.
لكن دراسة الهيئة ومقارنتها المعيارية ناقصة وغير مكتملة في جزئية هي الأساس، غير أنها أكدت ما سبق وطرحته صحيفة "الاقتصادية" في تقارير ومقالات وتحقيقات صحافية، ولذلك فإن دراسة الهيئة لم تقدم جديدا في هذا الأمر، وكان من المنتظر أن تصاحب هذا التقرير قرارات واضحة من الهيئة بشأن الخطوات المقبلة، وهو ما كان ينتظره كل من قرأ التقرير، لكن التقرير انتهى إلى توصيات عامة هي من قبيل ما يقدم في مؤتمرات علمية، وليس لصانع قرار منحه النظام القدرة على معالجة هذا الخلل العميق والواضح بكل الأدلة. لقد أشارت دراسة الهيئة إلى أن هناك ارتفاعا في الشكاوى ضد الموزعين، ومن أعوام وهي تتنامى مع انخفاض متوسط الرضا.
ومن المؤلم أن يؤكد التقرير أن هوامش الأرباح لأرباب هذه الصناعة في المملكة أعلى من نظرائها في أسواق الدول الأخرى، ومنها الدول الخليجية، ذلك أنه من المعلوم اقتصاديا أن السلع تنتقل من الأسواق الأقل تسعيرا إلى الأعلى، حتى تصل جميع الأسواق إلى التوازن. فبقاء الأسواق المحلية أعلى ربحية يؤكد وجود فعل احتكاري عميق التأثير يمنع حتى هذه الحقائق الاقتصادية من ممارسة دورها في تحقيق التوازن. ولا شك أن هذا دليل على خطورة ما يقوم به الوكلاء والموزعون المحليون من تأثير في التوازن الاقتصادي وفي حرية الأسواق. لذلك لا بد من قرارات حاسمة تعيد هذه الصناعة إلى القيام بدورها الحقيقي في دعم النمو الاقتصادي الشامل للمملكة، وعلى هيئة المنافسة والهيئات ذات العلاقة ومن بينها هيئة المنشآت، العمل بقوة على فتح هذه السوق للمبادرين والمنافسين بالتحفيز والتمويل والدعم، والعمل مع هيئة السوق المالية على إجبار كبار اللاعبين في السوق على بيع حصص من أعمال هذه الشركات في السوق المالية، لجعلها أكثر شفافية، وإجبار الشركات الصانعة على تحمل مسؤولية دولية. لقد تأخر حسم هذا الملف أعواما طويلة، ومن المؤمل الآن أن تقوم الجهات المعنية - تحديدا هيئة المنافسة ووزارة التجارة وهيئة المنشآت، كل بحسب دورها ومسؤولياتها - بما كان يفترض أن تقوم به، وتبادر إليه بتفكيك هذه الشركات المحتكرة، وتحرير سوق السيارات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي