عالم بدون عولمة .. عالم تضخمي
على مدى العقود القليلة الماضية، ترافقت العولمة مع التضخم، نظرا لأن الشركات متعددة الجنسيات نمت إلى ما هو أبعد من حدود البلدان القومية الفردية، فقد تمكنت من استخدام التكنولوجيا، والاستعانة بالمصادر الخارجية، وانتهاج سياسة اقتصاد الحجم لخفض الأسعار. وتمكنت العمالة الرخيصة، ورأس المال الرخيص، والسلع الرخيصة من إبقاء الأسعار منخفضة.
الآن وضعت الحرب في أوكرانيا حدا للغاز الروسي الرخيص. وسيؤدي الدفع العالمي نحو الحياد الكربوني في النهاية إلى إضافة ضريبة دائمة على استخدام الوقود التقليدي. ويعني الانفصال بين الولايات المتحدة والصين نهاية سلاسل التوريد الفعالة "أي الرخيصة"، لكن الهشة. وتضع نهاية التسهيل الكمي ورفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي سقفا للمال السهل.
جوانب هذا الواقع الجديد موضع ترحيب. لم يكن الاعتماد على الحكومات الشمولية للحصول على الإمدادات الحيوية فكرة جيدة أبدا. وتوقع التزام الدول ذات الاقتصادات السياسية المختلفة بشدة بنظام تجاري واحد كان أمرا ساذجا.
إن تلويث الكوكب لإنتاج ونقل البضائع ذات الهامش المنخفض حول العالم لا يبدو منطقيا عند حساب التكلفة الحقيقية للعمالة والطاقة، علاوة على تغيير الجغرافيا السياسية. أدى انخفاض أسعار الفائدة الحقيقية لأكثر من ثلاثة عقود إلى ظهور فقاعات غير منتجة وخطيرة في الأصول، نحن في أمس الحاجة إلى اكتشاف بعض الأسعار في الأسواق.
بعد قول هذا كله، لا يمكن تجاهل حقيقة أن العالم دون العولمة سيكون أيضا أكثر تضخما، على الأقل في المدى القصير. سيشكل هذا تحديا كبيرا لكل من اقتصاد الولايات المتحدة والعالم الأوسع.
وكما أخبر زولتان بوزار المحلل في بنك كريدي سويس العملاء في مذكرة حديثة "الحرب تعني الصناعة"، سواء أكانت حربا ساخنة أو حربا اقتصادية، والصناعة المتنامية تعني التضخم. هذا عكس النموذج الذي خبرناه خلال نصف القرن الماضي تماما، حيث "أصبحت الصين غنية جدا عبر صنع أشياء رخيصة (...) وأصبحت روسيا غنية جدا عبر بيع الغاز الرخيص لأوروبا، وأصبحت ألمانيا غنية جدا عبر بيع أشياء باهظة الثمن تم إنتاجها باستخدام غاز رخيص". في غضون ذلك، أصبحت الولايات المتحدة "غنية جدا من خلال اللجوء إلى التسهيل الكمي، لكن رخصة التسهيل الكمي جاءت من نظام (التضخم المنخفض) الذي مكنته الصادرات الرخيصة الآتية من روسيا والصين".
كل هذا يتغير الآن. وهذا يعني أنه حتى محافظو البنوك المركزية المتشددون قد لا يكونون قادرين على التحكم في البيئة التضخمية. هذا الموضوع كان في صدارة ومحور مؤتمر جاكسون هول الذي عقده محافظو البنوك المركزية أخيرا، عندما أصدر الاقتصاديان فرانشيسكو بيانكي، من جامعة جونز هوبكنز، وليوناردو ميلوسي، من الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو، ورقة بحثية مهمة تتساءل عن مدى قدرة السياسة النقدية على خفض التضخم إذا كان الوضع المالي للدولة آخذا في التدهور.
الفكرة الأساسية هي أنه إذا أدت زيادة أسعار الفائدة إلى الركود، فإن الإيصالات الضريبية ستنخفض، وبدلا من خفض الإنفاق على الأشياء الكبيرة - مثل الاستحقاقات والدفاع - أو التخلف عن سداد سندات الخزانة، فإنك تحصل على ديون متزايدة. عندما تتدهور صورة الديون بشكل كبير، يصبح من الصعب على السياسة النقدية وحدها كبح جماح التضخم، وبالتالي تحصل على تأثير كرة الثلج. النتيجة؟ ما لم تكن السياسة النقدية مصحوبة بوضع مالي أكثر استقرارا، فستكون النتيجة ارتفاع معدلات التضخم وركود الاقتصاد وزيادة الديون.
توسل محافظو البنوك المركزية للسياسيين من كلا الحزبين لاستكمال جهودهم النقدية بسياسة مالية مناسبة لأعوام. والآن، يتم اختبار النظرية. عندما ترتفع أسعار الفائدة، فأنت تريد بشكل مثالي ديونا أقل. وهذا يتطلب زيادة الضرائب، أو إنفاقا أقل. يعتمد الخيار الأول على سيطرة الديمقراطيين على الكونجرس، ومن غير الواضح إلى متى سيستمرون في ذلك، حيث تلوح في الأفق الانتخابات النصفية في تشرين الثاني (نوفمبر). الخيار الآخر غير مرجح، بالنظر إلى الاستثمارات المالية المتأصلة في عالم دون عولمة، ويعمل على التخلي عن الكربون.
خذ في الحسبان، مثلا، تكلفة سلاسل التوريد الأكثر أمانا. أصدرت الولايات المتحدة للتو قانونا يمنح صانعي الرقائق 52 مليار دولار من الإعانات. وتنفق ألمانيا مائة مليار دولار على تحديث قواتها المسلحة. ومن المرجح أن ينفق الغرب 750 مليار دولار على إعادة إعمار أوكرانيا، وقد أعلنت مجموعة الدول السبع أخيرا خططا لضخ 600 مليار دولار في البنية التحتية لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية الضخمة. كل هذا، على المدى القصير على الأقل، تضخمي.
ثم تأتي تحديات ضمان الإنتاج. يقول بوزار "المخزون بالنسبة إلى سلاسل التوريد هو ما تمثله السيولة بالنسبة إلى البنوك، وفي سياق سلاسل التوريد، تعني الرافعة المالية نفوذا تشغيليا مفرطا". ويشير بوزار، مثلا، إلى أن نحو تريليوني دولار من الإنتاج الألماني ذي القيمة المضافة يعتمدان على ما قيمته 20 مليار دولار من الغاز من روسيا. ماذا سيحدث إذا توقف هذا التدفق تماما هذا الشتاء؟ ربما نحن على وشك أن نعرف الإجابة.
هناك محاذير مهمة لهذه القصة. قد يكون الإنفاق المنتج على أشياء مثل البنية التحتية، والبضائع والخدمات عالية القيمة، والانتقال إلى الطاقة النظيفة تضخميا على المدى القصير، لكنه في النهاية يعزز الوضع المالي للبلاد من خلال دعم النمو طويل الأجل. وبالفعل، فإن هذه الأنواع من "الفقاعات الإنتاجية" - التي يوفر فيها القطاع العام حوافز للاستثمار في التكنولوجيات الحيوية والأسواق الجديدة - تتيح فترات من النمو المستدام المشترك على نطاق واسع.
السؤال، ما حجم الإنفاق اليوم الذي سيكون مثمرا، وإذا ما كانت الحكومات ستتمتع بالقدرة على خفض ما هو غير ذلك؟ في كلتا الحالتين، في المدى القريب، ستكون نهاية عصر العولمة الليبرالية الجديدة بمنزلة رياح خلفية تدفع التضخم إلى أعلى. تماما مثل التخلص من العولمة نفسها، يمثل ذلك تحولا اقتصاديا هائلا، الأمر الذي ينذر بكل أنواع العواقب غير المتوقعة.