الغرائبية في الأعياد .. متنفس الإنسانية
العيد في اللغة، كل يوم يحتفل فيه بذكرى حدث مهم، والعيد ما يعود من هم أو مرض أو شوق أو نحوه. وفي لسان العرب لابن منظور "العيد: كل يوم فيه جمع، واشتقاقه من عاد يعود، كأنهم عادوا إليه، وقيل: اشتقاقه من العادة، لأنهم اعتادوه، والجمع أعياد". وفي الاجتماع الإنساني، تعد من مميزات وسمات الحضارة الإنسانية، فهي جزء مهم من نسيجها الثقافي، ما يعني أنه لا يوجد مجتمع إنساني دون عيد، ولا تخلو ثقافة من أعياد برمزية دينية أو دلالة وطنية.
تختلف مظاهر الاحتفال ومواقيته الزمنية وطرق تخليده... حتى دواعي الاحتفاء بهذه المناسبات باختلاف الشعوب والأمم، رغم وحدة الهدف المنشود والغاية المتوخاة وراء هذا الإحياء. ما يؤكد أن الإنسانية تصر على الانتصار لقيمتي الاختلاف والتعددية، قاسما مشتركا بين جميع طوائفها، ضد كل مساعي التنميط والقولبة "النمذجة" التي تحاول الحضارة/ الثقافة المهيمنة تسويقها، تارة باسم العولمة، وتارة أخرى بشعار الكونية، وثالثة بدعوى الكوكبية.
تخلد شعوب الأرض، على مدار أيام العام، أعيادا دينية مثل، عيد الفطر والأضحى والميلاد والفصح والقيامة والبساكي "السيخ" وفيساك "البوذيين" والرضوان "البهائيين"... وأعيادا وطنية، مثل، عيد الاستقلال والتحرير والتأسيس والنصر... حتى أياما وطنية من قبيل، يوم الثورة والدستور والجمهورية والأبطال... بذلك يكون جوهر الفكرة واحدا، حتى إن تباينت تفاصيل الاحتفال بالمناسبة من أمة إلى أخرى، وفي هذه الدولة عن تلك.
يحدث أن تتفرد قومية أو طائفة باحتفالية عجيبة أو مناسبة مثيرة، وقد تكون الذكرى طريفة، وفي بعض الأحيان خطيرة للغاية. هكذا تسجل شعوب في مناطق مختلفة من العالم، التميز لذاتها بأعياد غريبة وطقوس مميزة، بعضها ضارب في عمق التاريخ، باستنادها على تراث الأساطير القديمة. فيما الأخرى حديثة نسبيا، فغالبا ما ترتبط بحدث سياسي أو واقعة اجتماعية تحولت إلى عيد قومي أو ذكرى قبلية.
اتجهت الأنظار، الأربعاء الأخير من آب (أغسطس) الماضي، نحو مدينة بونول في مقاطعة فالنسيا، لمتابعة طقوس الاحتفال السنوي بعيد "لاتوماتينا" حرب الطماطم، حيث يحتشد عشرات الآلاف من الإسبان للمشاركة في حرب مدتها ساعة ونصف، سلاحها الوحيد حبات الطماطم التي تقذف بجنون فيما بينهم، حتى يتشح الفضاء بمن فيه باللون الأحمر من كثرة الطماطم المسحوقة. زمنيا، يصنف عيد الطماطم في خانة الأعياد الحديثة، فبدايته كانت في 1945، رغم حداثة المناسبة يبقى الاختلاف قائما بشأن دواعي الاحتفال لأول مرة.
في إسبانيا دائما، يحتفي سكان منطقة غاليسيا في الشمال الغربي، المشهورة بالسحرة والشعوذة، نهاية تموز (يوليو) من كل عام، بعيد "الاقتراب من الموت" وذلك بتجمع المئات من سكان القرية، ممن فقدوا أقرباء أو عاشوا تجربة خطيرة قربتهم من الموت، لمشاركة قصصهم مع الآخرين. قبل الانتقال إلى جوهر المناسبة، حيث ينامون في توابيت مفتوحة، بعد ارتداء أكفان بيضاء، تحمل على الأكتاف في شوارع القرية، وصولا إلى المقبرة. كل ذلك بهدف استكمال رحلة الموت التي لم تكتمل واقعيا.
عودا إلى أجواء الحرب، ليس بالطماطم في إسبانيا، لكن مع الجيران في أمريكا اللاتينية، وتحديدا في بوليفيا، حيث يحتفي سكان مدينة بوتوسي، في الجنوب الغربي للبلد، بعيد "ماتشو تنكو" عيد ضرب الجيران، لأزيد من ستة قرون خلت. وتتمثل طقوس العيد في الخروج من المنزل، ثم الانخراط في ضرب الجيران بقوة وعزم. فتبادل اللكمات والضرب المبرح، يجلب الحظ، ويضمن وفرة المحاصيل الزراعية.
أحيانا، قد تشكل هذه الأعياد خطرا على النساك، كما هو الحال في عيد "سانت هلينا" أو المشي على النار، في مناطق مختلفة في شمال اليونان وجنوب بلغاريا. يستمر الاحتفال ثماني ليال يقضيها المشاركون في الرقص على الجمر. في أصول العيد، تفيد الرواية بأنه تجسيد لمحاولة إنقاذ سامت هلينا في حريق كنسية سانت قسطنطين، دون أن يصيبهم أي مكروه. الفكرة ذاتها، أي المشي على النار، تنتشر في شرقي الهند في ولاية أوديشا، تحت اسم "يامو تاترا" حيث يحمل المشاركون القش بأفواههم، ويمشون على الجمر المتوقد.
يبقى عيد "هولي فاغوا" عيد الألوان أشهر أعياد الهند، الذي يقام ما بين شباط (فبراير) وآذار (مارس) كل عام، ويأتي احتفالا بموسم الحصاد وخصوبة الأرض. هذا ما جعل الاحتفاء ملونا فرحا بقدوم فصل الربيع، حيث تقوم النساء برمي بعضهن بألوان تسمى "الجولال". يتجاوز هولي الهند نحو تخطي حدود دول عديدة مثل النيبال وبنجلادش وسريلانكا والباكستان، وامتدت الاحتفالات إلى الدول التي تحتوي على جاليات هندوسية، تأكيدا على مركزية هذه المناسبة، مثل، جنوب إفريقيا والولايات المتحدية وبريطانيا.
عادة ما يكون العيد مرادفا للفرح والبهجة والسرور، بالشعيرة الدينية أو المناسبة الوطنية أو غير ذلك. لكن في مقاطعة بالي في إندونيسيا يكون عيد "نيابي" هو عيد الصمت، والتأمل الذي يحييه سكان الجزيرة في آذار (مارس) بالصوم عن الكلام أو الخروج من المنزل أو سماع الموسيقى طيلة يوم كامل "24 ساعة". يعتقد الهندوس أن هذا اليوم يصادف يوم نزول الأرواح الشريرة على الأرض. من جانبها، تحرص الشرطة على ضمان مرور أجواء العيد بسلام، حيث تفرض حظرا للتجوال، بما في ذلك السياح والأجانب، ضمانا لحسن سير أجواء العيد.
تستمر الغرابة حين نكتشف أن التايلانديين ينظمون في آخر أسبوع من تشرين الثاني (نوفمبر) عيدا للقرود "وليمة القرود". فقد قرر القرويون في قرية لوب بوري، منذ 1989، المصالحة مع القرود المثيرين للمضايقات في تلك الغابة، بتنظيم وليمة تحتوي على ثلاثة آلاف نوع من المأكولات "خضر، فواكه، مشروبات..." في معبد سام يوت، كل ذلك أملا في الهدوء والسلام مع القردة.
من "عيد القش" في بريطانيا إلى "عيد نثر الفول" في اليابان، مرورا بعيد "الفانوس العائم" في جزر هاواي وعيد "الموسيقى تحت الماء"... تتنوع الأعياد قلبا وقالبا، وتتنافس في الغرابة والإدهاش حد الجنون أحيانا، كما هو الحال في "اليوم الوطني لـ«لا شيء»" أو يوم "استراحة المخ"... يبقى اللافت للنظر أن الإنسانية - حتى وهي ترتقي في مدارج الحداثة، تظل غارقة في النزعات الطقوسية، فهي ملاذها الأخير للتخفيف عن النفس من ضغط الحياة المعاصرة.