رقمنة اقتصادات منطقة جنوب شرق آسيا .. الطريق لا يزال طويلا
يتوسع الاقتصاد الرقمي في منطقة جنوب شرق آسيا بوتيرة غير مسبوقة، وتبدو علامات هذا التحول الرقمي واضحة، سواء من خلال تزايد أعداد الشركات التكنولوجية التي تزيد قيمتها على مليار دولار أمريكي وتعرف باسم "يونيكورن"، أو تنامي فئة رواد الأعمال والشركات الصغيرة التي تعتمد على الابتكار والاستخدام الكثيف للتكنولوجيا الحديثة لتحقيق مزيد من النمو، أو من خلال الاهتمام الحكومي الكبير عبر قوانين وتشريعات ولوائح تنظيمية تعمل على تسريع دمج الاقتصاد المحلي في عالم الاقتصاد الرقمي، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
على الرغم من أن جهود تعزيز الاقتصاد الرقمي في منطقة جنوب شرق آسيا تعود إلى أعوام سابقة لجائحة كورونا، إلا أن تفشي الوباء في دول المنطقة سرع من عملية الرقمنة الاقتصادية بشكل كبير وقدم فرصا واعدة في قطاع التجارة الإلكترونية على وجه التحديد.
وزاد نمو الاقتصاد الرقمي في جنوب آسيا بمعدل غير مسبوق في العقد الماضي، ففي 2018 بلغت التقديرات أن يصل الاقتصاد الرقمي في ست أسواق رئيسة في المنطقة وهي سنغافورة، تايلاند، ماليزيا، إندونيسيا، فيتنام، والفلبين إلى 200 مليار دولار، وذلك بحلول 2025، اليوم وكأحد تداعيات جائحة كورونا تشير التقديرات إلى أن اقتصاد الإنترنت المزدهر في جنوب شرق آسيا سيصل إلى 363 مليار دولار بحلول 2025، متجاوزا بذلك التوقعات السابقة.
وستلعب التجارة الإلكترونية، والسفر، الإعلام، النقل، والضيافة دورا رائدا في قيادة الاقتصاد الرقمي في المنطقة، وذلك مع ارتفاع الإنفاق عبر الإنترنت بنسبة 49 في المائة العام الماضي إلى 174 مليار دولار، كما أن المنطقة نجحت في إدماج 60 مليون شخص في الاقتصاد الرقمي يتركز أغلبهم في تايلند والفلبين.
ويعتقد بعض الخبراء، أن التركيبة السكانية، واعدة في أسواق جنوب شرق آسيا، حيث إن 78 في المائة من السكان أي نحو 350 مليون نسمة سيبلغون من العمر 15 عاما أو أكبر، وتعرف تلك الفئة العمرية باسم المستهلكين الرقميين، وذلك لتفضيلهم استخدام الإنترنت لإجراء المعاملات التي يحتاجون إليها، سواء في عملية شراء أو البيع للسلع أو الخدمات، وأن تلك التوجهات، ستعزز من مسار الرقمنة الاقتصادية في دول المنطقة.
ويعزي ميشال براون الباحث الاقتصادي في الشؤون الآسيوية هذا النجاح إلى ما يطلق عليه ثورة الهواتف الذكية، وقال إن "آسيا القارة الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم، ولديها أكبر عدد من مستخدمي الهواتف المحمولة على المستوى العالمي، حيث يستخدم نحو ثلثي سكان القارة الهواتف المحمولة، ولا يزال هناك مجال للتوسع خاصة في منطقة جنوب وجنوب شرق آسيا".
وأضاف لـ"الاقتصادية"، "في سنغافورة على سبيل المثال يمتلك 87 في المائة من السكان هواتف ذكية وفي ماليزيا تصل النسبة إلى 63 في المائة، وسيزيد استهلاك السكان لبيانات الهواتف المحمولة بمقدار ثلاثة أضعاف ما هي عليه الآن بحلول 2025، وسيقفز معدل الاستخدام من 9.2 جيجابايت إلى نحو 29 جيجابايت لكل مستخدم شهريا".
وتابع "آسيا هي المنطقة الأسرع نموا في سوق التجارة الإلكترونية العالمية، كما أن 78 في المائة من مبيعات التجزئة في التجارة الإلكترونية التي تقارب 2.5 تريليون دولار تتم عبر الهواتف المحمولة".
في السياق ذاته، يربط بعض الاقتصاديين بين تنامي الاقتصاد الرقمي في منطقة جنوب شرق آسيا من جانب وتزايد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي من جانب آخر، إذ منحت وسائل التواصل الاجتماعي قوة دفع كبيرة للاقتصاد الرقمي في المنطقة، خاصة أن معدل انتشارها سريع للغاية.
وتمتلك ماليزيا حاليا أعلى معدل انتشار لوسائل التواصل الاجتماعي بنسبة 81 في المائة، تليها سنغافورة 79 في المائة، وهذا الاستخدام الكثيف لوسائل التواصل الاجتماعي الذي اكتسب زخما ملحوظا نتيجة توفر الهواتف الذكية في أيدي المستهلكين، خاصة من فئة الشباب ساعد في تعزيز التجارة الإلكترونية في عمليات شراء وبيع المنتجات والخدمات.
وكانت تقديرات دولية قد أشارت إلى أن نسبة المدفوعات الرقمية في جنوب شرق آسيا ستبلغ نحو 65 في المائة من إجمالي المدفوعات في المنطقة في 2024 وذلك مقابل متوسط عالمي لا يتجاوز نسبة 52 في المائة.
من هنا، ترى الدكتورة كاتي بروكس أستاذة التنمية الاقتصادية، أن سلوك المستهلك لعب دورا رئيسا في تعزيز الرقمنة الاقتصادية في جنوب شرق آسيا.
وذكرت لـ"الاقتصادية"، أن "التحول الكبير في سلوك المستهلك أجبر الشركات الصغيرة والمتوسطة على تبني الخدمات الرقمية وأن يصبحوا "تجارا رقميين"، هذا الوضع الجديد نتج عنه تحديات لكل من التجار والمستهلكين الرقميين، كما أن اعتبارات الجودة، وتحسين وقت التسليم، ومراعاة الجوانب البيئية والاستدامة، وتفضيل المدفوعات الإلكترونية على النقود، باتت سلوكيات جديدة أوجدت فرصا هائلة للشركات خاصة الصغيرة، شريطة تطوير قدرتها التكنولوجية، كما أوجدت تحديات مثل أمن البيانات والحفاظ على خصوصية المعلومات والشمول الرقمي، وهي مشكلات لا يمكن معالجتها إلا عبر مزيد من رقمنة الاقتصاد الكلي".
لكن النمو الجاري في رقمنة اقتصاد جنوب شرق آسيا لا ينفي أن هناك طريقا طويلا لا يزال أمام المنطقة لتقطعه، فهناك عديد من المجالات التي تحتاج إلى تحسين سواء في البنية التحتية الرقمية وأمن المعلومات وتبني مزيد من التعاون وطرح مبادرات تعمل على توسيع مشهد الاقتصاد الرقمي.
من جانبه، يرى كونرد ويل الخبير في التجارة الإلكترونية، أن حكومات المنطقة باتت تلتزم بالتداول غير الورقي والمصادقة الإلكترونية والتوقيع الإلكتروني وحماية المستهلك عبر الإنترنت.
لكنه يشير قائلا إلى أن "هناك خطوتان رئيستان يجب أن تعمل دول المنطقة عليهما لتحقيق قفزة نوعية في مجال الاقتصاد الرقمي، الأولى تتعلق باعتماد برامج هوية رقمية أقوى بين حكومات المنطقة وداخل القطاع الخاص والمجتمع المدني لمعالجة قضايا من قبيل أمن البيانات والخصوصية والشمول الرقمي وكلها باتت ضرورية ومحورية لضمان تعزيز ونمو الاقتصاد الرقمي، والثاني بتوحيد الأساس المادي للاقتصاد الرقمي بين دول المنطقة عبر بناء بنية تحتية رقمية موحدة".
وفي الواقع، فإن الهوية الرقمية الموثوقة تتجاوز الآن فكرة وضع هوية مادية مثل التوقيع أو الصورة على الإنترنت، وإنما تشمل مجموعة من سمات الهوية الملتقطة إلكترونيا والمخزنة وتصف الشخص بشكل فريد ويتم استخدامها في المعاملات الإلكترونية عبر الثقة الناجمة عنها.
وتعد الهوية الرقمية أمرا بالغ الأهمية للتجارة الإلكترونية، حيث ستسرع من التكامل الاقتصادي عبر زيادة معاملات التجارة الإلكترونية العابرة للحدود ولقطاعات أوسع من المستهلكين، كما ستفيد الشركات الصغيرة بشكل ملحوظ من خلال تقليص احتمالات الغش والخداع التجاري التي تتعرض لها، ما يساعد على تحقيق مزيد من الأرباح التي يعاد تدويرها لضمان توسع المشروع.