التعليم .. أيها أنفع وأجدى؟
منذ ظهور الإنترنت إلى الوجود منتصف العقد الأخير من القرن الماضي، كانت المكتبات والبحث أكثر عناصره إثارة للحماس، فبعد أن كان البحث عن معلومة ما، يعني أن يمضي الشخص في المكتبة نصف النهار وقد لا يجدها بسهولة، تحول الأمر مع نهاية القرن الماضي إلى معالجات بحث عبر الإنترنت، وتسابقت المكتبات العالمية لعرض محتوياتها عبر هذه التقنيات الحديثة، ثم ما لبث أن أصبحت الصحف كذلك، وجميع مصادر المعرفة الأخرى. وكانت التطورات سريعة ومدهشة للغاية، وأصبحت المعلومات متاحة بشكل لا يصدق، حتى تحولت المشكلة من ندرة المعلومات إلى الإغراق المعلوماتي.
وأغرت التقنية وشبكات الإنترنت كثيرا من مؤسسات التعليم بإدخال التعليم الإلكتروني إلى مصادرها وأدواتها، لكن ذلك كان محصورا ضمن أسوار الجامعات، ولم يصل إلى التعليم العام، فالتعليم الحضوري عقيدة، وعلى الرغم من أن التعليم عبر الإنترنت يعد مظهرا جديدا من مظاهر التعلم، وظهر في العالم نماذج للجامعات المفتوحة، إلا أنه ظل محل اتهام، لأن الطالب لا يدخل مقار الجامعة أو المدرسة، بل قد لا يكون في المدينة نفسها أو حتى الدولة، وتردد كثير من الدول في قبول هذا النوع من التعليم ومخرجاته، بل تم إيقاف كل مظاهره ومكافحتها، على اعتبار أنها تعليم مزيف أو ناقص، وتسببت هذه النظرة السيئة للتعليم عبر الإنترنت في ضعف الاستثمارات في نماذج وتقنيات التعليم هذه، حتى حل فيروس كورونا ضيفا ثقيلا على العالم بأسره، وكان التعليم أول ضحايا هذه الأزمة الصحية، إذ تعطلت المدارس وتوقف التعليم تماما، ولعدة أسابيع، قبل أن يدرك الجميع أن أزمة كورونا أطول مما كان متوقعا، وأن استمرار إيقاف المدارس والجامعات يعني تأخيرا خطيرا في منتجات التعليم، ومخرجاته، ولا أحد يمكنه تحمل الآثار الاقتصادية والاجتماعية لذلك. وكان الحل موجودا، بفضل الله، ثم بفضل تقنيات التعليم عبر الإنترنت التي كانت حاضرة بقوة مع تطور منصات التعليم والاجتماع وسهولة التواصل بين الأستاذ وطلابه، وأصابت العالم الدهشة مع ما بثته وسائل التواصل الاجتماعي من صور طلاب في الابتدائية وتفاعلهم الكبير مع هذا النوع من التعليم، وأثبتت تلك الظروف أن هذا النوع من التعليم قادر على تحقيق مخرجات تعليمية لا تقل عن تلك التي يحققها التعليم الحضوري في المدارس والجامعات.
ومع تنامي سرعات الإنترنت وتقنيات منصات التعليم بات من الممكن الوصول إلى تعليم جيد بل ثورة في تقنيات التعليم وأساليبه. لكن كانت العودة إلى التعليم الحضوري بمنزلة تحد كبير لبقاء هذا النموذج حيا، وفاعلا، فبقدر ما كان التعليم عبر الإنترنت منقذا للعالم في فترة الجائحة بقدر ما ثبت أنه يتطلب استثمارات كبيرة سواء من قبل المتعلمين أو المؤسسات التعليمية، فالاشتراك في منصات التعليم عبر الإنترنت أصبح مكلفا، كما أن هذا يتطلب الاتصال بسرعات عالية، وظلت الفصول الدراسية التقليدية تمنح الأسر إحساسا بالأمان والثقة في مقابل عالم الإنترنت الذي لم يزل عالما مجهولا بمساحته الشاسعة اللامتناهية، ومثيرا للقلق بالنسبة إلى كثير من الآباء والأمهات.
وحسب دراسة لاستطلاع الرأي أجرتها "الاقتصادية"، فإن التعليم عبر الإنترنت - وحسب ما يرى أستاذ لعلم النفس في جامعة كامبريدج - يقلل من تفاعل الطلاب الاجتماعي مع أقرانهم وأساتذتهم، فالطلاب خاصة خلال أعوام دراستهم الاجتماعية في حاجة إلى الوجود حول أشخاص آخرين، لتعزيز انتشار الأفكار وتطوير شعور قوي بالهوية الشخصية، وبعض الدراسات أشارت إلى أن التعليم عبر الإنترنت يقلل من الانضباط ويسهل على الطلاب أن يصبحوا كسالى في دراستهم، كما أن الفصول عبر الإنترنت تحد من التعلم والتدريب العملي.
وفي الجانب الآخر، فإن التعليم عبر الإنترنت أصبح خيارا مقبولا ومعقولا ومريحا بالنسبة إلى الطلاب سواء كانوا أطفالا أو في أعوام المراهقة، فالتعليم عبر الشبكة من وجهة نظر كثير من الخبراء مفيد لصقل المهارات في موضوعات صعبة، أو حتى لتعلم مهارات جديدة. وأوضحت مجموعة بابسون للأبحاث أن أكثر من 30 في المائة من طلاب التعليم العالي في الولايات المتحدة يأخذون دورة واحدة على الأقل عن بعد عبر الإنترنت. وهكذا فإن التعليم بأشكاله المعروفة سابقا أو عبر الإنترنت حاليا أصبح قضية أجيال، ومنعطفا تاريخيا قد يفصل بين مرحلتين.
الحقيقة الواقعة اليوم أن هناك إقبالا متزايدا على التعليم عبر الإنترنت، ومن المتوقع أن يزيح هذا النمط التعليمي أنماط التعليم التقليدية منتصف القرن بل يتفوق عليها، فهناك اليوم منافسة على هذه السوق الآخذة في الازدهار والنمو وحجم التحولات الجارية الآن في سوق التعليم عبر الإنترنت، حسب رأي متخصصين في جامعة أكسفورد. ونما التمويل الاستثماري لتكنولوجيا التعليم من مليار دولار في 2017 إلى ثمانية مليارات دولار في 2021، ومن المتوقع أن تصل سوق التعليم عبر الإنترنت إلى نحو 585 مليار دولار بحلول 2027 مقابل 270 مليار دولار العام الماضي، ما يكشف عن وعي متزايد من قبل المستمرين بأهمية هذه السوق وتوسعها مستقبلا، ومع استمرار تحول المؤسسات إلى التعليم القائم على التقنيات الرقمية المتطورة، والأعوام المقبلة ستشهد تحسينات ثورية في أنماط التعليم عن بعد، تتجاوز بمراحل الخطوات التي اتخذت في العامين الماضيين التي سمحت بنمو وازدهار هذه السوق، فأعداد المتعلمين الذين يحصلون على دورات تدريبية مفتوحة عبر الإنترنت قفزت من 300 ألف في 2011 إلى 220 مليونا في 2021.
هذه النهضة التعليمية عبر المنصات الإلكترونية تتسابق عليها منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إضافة إلى أمريكا الشمالية بتطوير سوق واعدة للتعليم عبر الإنترنت، مع تزايد الطلب من قبل المهنيين والباحثين عن عمل على هذا النوع من التعليم، وقد قابل ذلك جهود لتطوير التعليم عبر الإنترنت في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وكذلك في أمريكا الشمالية، وهذا الاتجاه يؤكده مختصون وخبراء، يعتبرون الخدمات التعليمية عبر الإنترنت ستصبح العلامة التجارية شديدة الأهمية مستقبلا.
وفي هذا السباق المحموم نحو هذه السوق العالمية الآخذة في النمو، فإن واقع العالم العربي يبدو خارج السياق تماما، بسبب ظروف متنوعة ومختلفة، مع محاولات غير واضحة بشأن دمج التعليم عبر الإنترنت مع التعليم الحضوري، وغياب لخطط واضحة ومعلنة بشأن الاستثمارات في هذا القطاع، ومحاولات ضعيفة وتظهر على استحياء وخجولة، ولا تساعد على نشر هذا النوع من التعليم، ليكون على نطاق واسع يتماشى مع التطوير المتسارع في خدمة الإنترنت.