تراكمات التضخم وصدمات الأسواق

تتصاعد المخاوف في أوساط المستثمرين في أغلب أسواق العالم، من وصول الركود الاقتصادي إلى الساحة بشكل مخيف، قد يضرب حركة الأسواق في مشهد لم يحدث من قبل، في ظل دلائل لا تخفى على أنه آت، وربما يبقى فترة طويلة، متأثرا بالطبع بالموجة التضخمية المتراكمة، التي أصابت الاقتصاد العالمي كله، وبإقدام البنوك المركزية على رفع تدريجي للفائدة في خطوات نادرة، ما يوقف عمليا كل سياسات التحفيز التي اتبعها المشرعون طوال الأعوام الماضية.
بالفعل، المشهد العام يثير قلقا حقيقيا لدى المستثمرين، الأمر الذي يفسر الخروج المتصاعد للأموال من أسواق الأسهم في الآونة الأخيرة. وهرب هذه الأموال سجل أرقاما تعد قياسية في الأسابيع الماضية. ففي أسبوع واحد، خرجت أموال فاقت التي تدفقت بقيمة 9.4 مليار دولار.
وكان طبيعيا أن تسجل سوق الأسهم الأمريكية النسبة الكبرى من الأموال الخارجة، مع مضي المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" في رفعه التدريجي للفائدة، التي ربما تصل إلى 3.75 في المائة بنهاية العام الجاري.
الجميع يتوقع الصدمة، في مشهد نادر وخطير. فعادة ما تكون الانهيارات والأزمات مفاجئة، إلا أن مقدماتها في الوقت الراهن تتحدث عنها، وسط حال متفاقمة من خوف آت من ركود تضخمي لن ينتهي قريبا، وربما استمر حتى منتصف العقد الحالي، بينما لا توجد بدائل لتعزيز مواجهة التضخم سوى الفائدة، التي ترفع تكاليف الاقتراض، وفي الوقت نفسه تزيد من حدة الضغوط على الشركات، خصوصا، التي يتم تداول أسهمها في الأسواق. المشهد الحالي يشهد صدمتين للأسواق، إلى جانب الصدمات الاجتماعية الأخرى.
الأولى، صدمة تضخم سريع، وهذا يحصل بصورة متوالية، وصدمة ركود بطيء، بصرف النظر عن نمو يحدث بالفعل، لكن بدافع ارتفاع أسعار المستهلك، وما تبقى من آثار التحفيز المالي المتداعي. دون أن ننسى عاملا آخر محوريا، لكنه أيضا يواجه تراجعا واضحا، هو مدخرات المستهلكين. فالمدخرات تقلصت، ليس بفعل الأزمة الاقتصادية الحالية فقط، بل من جراء آثار جائحة كورونا أيضا.
يغذي ارتفاع التضخم تقلبات الأسواق، لأنه ينعكس مباشرة على الأرباح المستقبلية للشركات المدرجة. وهذا ما يفسر التراجعات التي تحدث في الأسواق الرئيسة في الوقت الراهن، والارتفاعات المتواضعة وغير المستقرة لها. كما أن التضخم يعرض الدولار إلى الانخفاض، بل التآكل شيئا فشيئا، ما يجعل من الصعب على الشركات قياس القيمة عليه بصورة دقيقة. ولأن الفائدة، ولا سيما على العملة الأمريكية، تتزايد، فإن نسبة متزايدة أيضا من المستثمرين تجنح نحو الدولار لسببين، الأول: أن العائد على مدخراتهم سيكون أعلى، إضافة إلى أن استثماراتهم ستكون آمنة أكثر من أسهم لا أحد يمكنه التنبؤ بمساراتها في فترة مضطربة. ومن هنا، تواجه الأسواق عموما عقبات في مسألة توقعاتها المستقبلية فيما يخص أداءها، بل حتى قيمتها المالية المطروحة، مع خروج الأموال منها.
ليس هناك مؤشرات تدل في الوقت الراهن على ما يهدئ الأسواق العالمية الرئيسة. فحتى في بعض الأيام التي حققت فيه مؤشرات الأسهم ارتفاعات لافتة "مرة أخرى آنية"، خصوصا الأمريكية التي استفادت بعض الشيء من ارتفاع وتيرة الوظائف في الولايات المتحدة الشهر الماضي، إلا أن المسار في المرحلة المقبلة ليس مشرقا، فالعقدة الأهم تبقى تلك المرتبطة باستراتيجية لن تهدأ لرفع الفائدة، واقتراب معدلات التضخم من الوصول إلى خانة العشرات، ما سيزيد من تقلبات الأسواق، ومن وتيرة خروج الاستثمارات منها، ومن المشكلات الاجتماعية التي باتت تنعكس على المؤسسات السياسية في الدول المتقدمة بصورة واضحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي