رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


ثقافة الإنتاج تحرك النمو

لا يزال تفسير الفيزيوقراطيين للاقتصاد صحيحا في بعض جوانبه رغم القرون الطويلة التي مرت عليه، خاصة في المناطق التي تعتمد بشكل أساس على قوة النظام الطبيعي وسطوته. الفيزيوقراطيون هم الذين يرون الاقتصاد في القوة الإنتاجية للطبيعة، وأن الطبيعة هي مصدر الثروة الوحيد للاقتصاد، والزراعة وحدها القادرة على تحقيق الإنتاج الصافي، ولهذا السبب كانت نظرة الفيزيوقراطيين للصناع والعمال كطفيليين على النظام الاقتصادي ولا ينتج منهم ثروة جديدة. وسيطرت هذه النظرة على الفكر الاقتصادي زهاء قرن كامل قبل أن تبدأ الثورة الصناعية في قلب الموازين لمصلحة أصحاب رأس المال ثم العمال لاحقا.
الإنتاج الصافي هو الفرق بين تكلفة الزراعة وبين سعر السوق، وهو الفرق الذي يجعل المزارعين يعيشون في رفاهية. لكن، ما مصدر صافي الإنتاج عند الفيزيوقراطيين؟ كانت الإجابة هي أن الطبيعة توفر المنتج الصافي كهدية مجانية على أساس مفهوم تقوم عليه الحياة في المزارع، فالمزارعون مدينون في هذا الناتج الصافي للتربة الصالحة والمطر الذي يأتي في وقته. بلا شك، هذه النظرة لم تصمد أمام القوة الصناعية ودور الآلة الذي تنامى بعد ذلك، كما أن هذه الفلسفة تجعل الإنسان أسيرا للتقلبات الطبيعية وشح الأمطار، لذا عندما ظهرت مدارس اقتصادية متعددة توارت هذه الفلسفة الاقتصادية للخلف تماما، ولم تعد تدرس إلا في سياق تاريخ الفكر الاقتصادي، لكن هل هذا صحيح تماما في كل وقت، ففي تقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا، يقول اقتصاديون: إن التطور السريع الذي شهدته دول آسيا مثل اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية والصين في حقبة الستينيات وما تلاها، وأخيرا في دول مثل فيتنام وبنجلادش، كان يعتمد على الإنتاجية الزراعية المحسنة بشكل شبه دائم، وأن الفوائض الزراعية كانت مفتاحا للتنمية، مع الاستغلال المكثف لقطع الأراضي الصغيرة التي تزرع فيها محاصيل مختلفة ويتم الحفاظ على جودة تربتها أو تحسينها، فالمزارعون الذين باعوا فوائض إنتاجهم وضعوا مدخراتهم في البنوك المحلية التي استطاعت إعادة تدويرها في شكل ائتمان تستفيد منه الصناعة المحلية، وهذا يأتي تماما وفقا لنظرة الفيزيوقراطيين، لكن مع تعديل بسيط، فالزراعة التي تم تحسينها بالتقنية هي التي جلبت المعجزات الاقتصادية، لدول شرق آسيا.
وعلى صعيد آخر، تعاني الدول الإفريقية اليوم المعاناة نفسها التي شهدتها دول شرق آسيا قبل النهضة الشاملة التي تشهدها حاليا، فإنتاجية المزارعين في دول إفريقيا، عالقة في حال يرثى لها، فكل المحاصيل الزراعية منخفضة عموما، مع أن عدد المزارعين في إفريقيا أكبر منه في أي قارة أخرى، حيث يصل إلى عشرات الملايين، لكنهم مع ذلك يعيشون في ظل نقص حاد في الغذاء. كما أن إفريقيا رغم هذا التعداد الضخم من المزارعين، إلا أنها أكبر مستورد صاف للأغذية، حيث بلغ الإنفاق عليها نحو 43 مليار دولار في 2019، وفق مؤسسة بروكينجز، ومن المرجح أن ترتفع هذه الفاتورة بسبب التضخم المتزايد في أسعار الغذاء. لكن، ما الأسباب الكامنة وراء هذا الضعف العام في الإنتاج الزراعي؟.
البعض يعيد المسألة بالكامل إلى مواسم الجفاف وقلة الأمطار، وهذا يعيدنا إلى قلب النظرة الفيزيوقراطية للعلاقة بين الطبيعة والإنتاج الزراعي، فهي ترى أن الإنتاج الصافي هو هبة الطبيعة فقط، الفوائض لا يمكنها أن تحدث ما لم تتعاون الطبيعة مع الإنسان، في ظل هذا المفهوم، فإن ضعف الإنتاجية يعود عند جميع صغار المزارعين في إفريقيا إلى قلة المطر، لكن لا أحد يلوم ضعف تطوير النماذج الزراعية بدءا من الاعتماد على الري في سقاية المحاصيل.
كما أن المزارعين في إفريقيا حتى أولئك الذين ينتجون محاصيل جيدة في الأغلب يفتقرون إلى المعرفة بالبذور أو الأسمدة أو أساليب زيادة الإنتاجية، والحافز للوصول إلى فائض في الإنتاج في الأغلب ما يكون غائبا، نظرا إلى ضعف الوصول المباشر إلى الأسواق الحضرية في بلدهم، فضلا عن الأسواق الخارجية عبر طرق معتمدة أو بأسعار واضحة، وهذا بالطبع جعل من المجدي اقتصاديا التزود بالآلات أو التفكير في تركيب أي شيء مكلف من حيث رأس المال، حتى مع وجود الائتمان.
الإمكانات الاقتصادية لإفريقيا تكمن بشدة في مختلف الموارد والصناعات، ومع ذلك، تعد الزراعة أحد المجالات التي يمكن أن تلعب دورا مهما للغاية في النمو الاقتصادي المتوقع في القارة. جيولوجيا، تمتلك القارة الإفريقية أكثر من 60 في المائة من الأراضي الزراعية الخصبة في العالم، ومن الناحية الاقتصادية، يأتي أكثر من 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في القارة من الزراعة، وهذه مؤشرات واضحة على أنه إذا تم اعتبار الزراعة نشاطا تجاريا بدلا من إعالة الأسرة المعيشية، فستسهم الزراعة بفاعلية في النمو الإفريقي، لكن مع الأسف يعد عديد من الناس الزراعة في القارة أنها نشاط رزق هدفه الأول توفير الأمن الغذائي لا نشاطا تجاريا واقتصاديا وتنمويا، لذا هناك حاجة ماسة إلى التطبيق العملي للزراعة التجارية والزراعة الآلية، وهذا أمر بالغ الأهمية للحيوية الاقتصادية والتصنيع للأنشطة الزراعية.
لابد أن تبدأ الحكومات الإفريقية في إيلاء اهتمام كبير للقطاع الزراعي، وإلا سيظل الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي بالنسبة لقارة إفريقيا حلما خياليا، لأنها ستضطر إلى إنفاق ملايين الدولارات على استيراد المواد الزراعية التي تكلف القارة كثيرا، ما يسبب البطء في النمو، ولا سيما في بناء البنى التحتية.
وتحقيقا لهذه الغاية، ينبغي إحداث تحول رقمي في قطاع الأغذية والزراعة، ويقتضي ذلك التصدي للحواجز القائمة، مثل محدودية البنى التحتية في المناطق الريفية، وعدم كفاية التمويل في مجال الزراعة، وعدم كفاية الاستثمارات في مجالات البحث والتطوير والابتكار الزراعي وريادة المشاريع الزراعية.
أخيرا، يعاني العالم أجمع مشكلة الغذاء ليس فقط بسبب عوامل جيوسياسية، بل حتى عوامل تقنية تتعلق بسلاسل الإمداد التي لم تعالج تماما حتى الآن، ولذا فإن الأزمة الحالية يمكن أن تكون حافزا من أجل التصرف، وزيادة الإنتاج المحلي بشكل أكبر من خلال تحسين الثقافة الزراعية، وفهم أكبر للعلاقات الاقتصادية بين النمو الاقتصادي والصناعي الشامل للقارة الإفريقية، وبين قدرتها على إنتاج الغذاء الكافي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي