سيناريو اليابان .. هل يتكرر؟

تظل الحضارة الصينية مثارا للاهتمام في كل مراحلها، خصوصا بداية انطلاق خطة طريق الحرير حديثا، الذي ابتدعه الصينيون في القرن الثاني قبل الميلاد، واستمر في ربط بلاد العالم القديم بالموارد والغذاء حتى القرن الـ16 الميلادي. ومن هذه الخطى الحثيثة تشكل الصين واحدة من أقدم الاقتصادات في العالم، حتى مع انتهاء أعمال العنف الكبرى في 1949 عندما حسم الشيوعيون الحرب الأهلية وأسسوا جمهورية الصين الشعبية في بر الصين الرئيس، حيث دخلت البلاد عملية تنمية اقتصادية مضطربة، حتى تم إدخال إصلاحات اقتصادية قائمة على نظام السوق في 1978، لتصبح الصين أسرع اقتصادات العالم وأكبر دولة مصدرة في العالم وثاني أكبر مستورد للبضائع.
ووفقا لتقرير نشرته "الاقتصادية" أخيرا عن تطور المؤشرات الاقتصادية للصين تاريخيا، فإنه بعد أن كانت الصادرات لا تتجاوز ملياري دولار في 1970، أصبحت تتجاوز 3.5 تريليون دولار في 2021، لهذا ظلت الصين ملهمة للعالم، ليس في تجربتها الاقتصادية فحسب، بل كمؤشر على اتجاهات ونمو الاقتصاد العالمي، فعندما تتحسن الصين واقتصادها وقدرتها الشرائية وتجذب الاستثمارات العالمية، فإن العالم يعيش معها في توازن كلي، ولم يتراجع الاقتصاد الصيني منذ 1976، وكان النمو السنوي في المتوسط في حدود 9.2 في المائة، ونمت الاستثمارات الأجنبية في الصين منذ 1980 من أقل من 0.06 مليار دولار لتتجاوز 253.1 مليار دولار في 2020، وهذا جعل العالم يدمن القدرة الشرائية الصينية في ظل نهم الصين للاستثمار والنمو، وأصبح الاقتصاد العالمي يعتمد بشكل كبير على صلابة هذا الاقتصاد وقوة ماكينته الإنتاجية التي أوصلت الناتج المحلي العالمي إلى نحو 18 تريليون دولار. فالصين تحتل مكانة رائدة في الصادرات العالمية التي نمت من 1978 إلى 2021 بنحو 521 مرة، في حين نمت الصادرات الأمريكية 11 مرة واليابانية سبعة أضعاف والألمانية 15 ضعفا خلال الفترة ذاتها، ولهذا أصبحت عبارة "صنع في الصين"، تدخل في كل بيت على وجه هذه الأرض تقريبا، هذا بخلاف وجود المنتجات الصينية من المواد الأولية في كل منتج في العالم تقريبا مهما بلغت دقة التقنية وتفردها.
فالصين تعد أكبر مصدر في العالم للمواد الأرضية النادرة التي تدخل في صناعات التقنيات الحديثة، وتشير تقارير إلى أنه لا تزال أمام الشركات الأمريكية أعوام قبل أن تتمكن من منافسة الهيمنة الصينية على المعادن الأرضية النادرة، لافتقارها إلى منشآت المعالجة المحلية بما يضمن للصين الإبقاء على شبه احتكار في مجال معالجة المعادن. في وضع مهيمن مثل هذا، فإن القلق يسود العالم، وتساؤلات كثيرة تطرح، هل يتوقف نمو أضخم اقتصاد في العالم؟ وما احتمالية دخول الصين في ركود اقتصادي؟ التوقعات تشير إلى أن نمو الناتج في 2022 سيكون بين 4 و5 في المائة، وعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يتراجع فيها الاقتصاد الصيني الذي كان يستعيد قوته بسرعة إلا أن هذا التراجع مقلق، لأسباب تتعلق بالصين نفسها وظروف أخرى تتعلق بالعالم من حولها. فيما يتجه النمو الاقتصادي في الصين نحو الجمود، إذ ولت أيام تسجيل نسبة نمو برقمين، ويبدو أن الأزمة التي يواجهها الاقتصاد الصيني المتعثر أعمق بكثير من الضرر الناجم عن عمليات الإغلاق نتيجة كوفيد - 19.
إن الآفاق الاقتصادية الدولية آخذة في التدهور. ولا شك أن تأثير تكاليف الطاقة الباهظة والحرب في أوكرانيا والركود العالمي المحتمل ستطول الصين مثل أي دولة أخرى. وفي الأثناء، تدرس الشركات الغربية من كثب سلاسل التوريد العالمية الخاصة بها. ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، أصبحت المرونة الآن هي الشعار، وهذا يعني تنويع مصادر الإمداد بعيدا عن الصين.
وإذا نظرنا وتفحصنا التجربة اليابانية توصلنا إلى أنها هي ما يقلق العالم بشأن تراجع النمو في الصين، فكثيرون يتوقعون إعادة السيناريو الياباني، فالعوامل نفسها تقريبا، فبعد أن كانت اليابان تنمو بسرعة في السبعينيات والثمانينيات بفضل النمو العالي في الصادرات والاستثمارات الأجنبية والإنفاق على البنية التحتية، توقف كل ذلك فجأة مع انفجار فقاعة في الأسهم والعقارات، ولأن هناك مشكلة قديمة في الأجور فقد كان من الصعب على اليابان أن تعتمد على مستهلكيها لدفع النمو، شهدت اليابان تراجعا في عدد القوى العاملة 13.4 في المائة، وتراجعت الإنتاجية من 13 في المائة إلى 1 في المائة خلال الـ20 عاما التالية، وبعدها بدأت الشركات اليابانية في التدرج خروجا من قائمة فورتشن جلوبال 500. وعلى سبيل المقارنة، تعيش الصين أزمة عقارية مشابهة، وتراجع سهم شركة علي بابا إحدى أكبر الشركات الصينية من أعلى قيمة بلغت 310 دولارات في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، ليصل إلى أقل من مائة دولار خلال الشهر الماضي، وانكمش عدد السكان في سن العمل في الصين، وهذا يؤثر بدوره ليس فقط في الإنتاجية، بل كذلك في مستويات الاستهلاك المحلي، حيث دخلت الصين في تباطؤ ملحوظ لنمو الإنتاجية، فمن معدلات نمو 2.8 في المائة خلال الأعوام العشرة ما قبل الأزمة المالية العالمية، أصبح نمو الإنتاجية 0.7 في المائة فقط، كما أن متوسط دخل الفرد في الصين يعد متدنيا إلى حد كبير، فهو عند المتوسط تقريبا، وهذا في مجمله يضع التجربة الصينية في المسار نفسه، الذي مضى فيه الاقتصاد الياباني تماما.
فإذا بقيت الصين عند هذا المستوى، فإن العالم عموما سيواجه مصاعب اقتصادية، فالقاطرة العالمية فقدت أهم أحصنتها، وفي المقابل فإن الاقتصاد الأمريكي يعاني التضخم ومشكلات في سلاسل الإمداد، التي ترتبط بشكل أو بآخر بالنمو في الصين، خاصة في المواد الخام، كما أن اقتصاد الاتحاد الأوروبي هو الآخر في وضع غير موات، مع العقوبات الاقتصادية على روسيا التي أنهكت اقتصاد أوروبا نفسه، إضافة إلى أن شبح الحرب وسباق التسلح سليقيان بظلالهما على النمو الاقتصادي في العالم أجمع. وفي ظل ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، فإن عديدا من الاقتصادات العالمية قد يواجه تحديات هائلة وغير مسبوقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي