الأمتعة .. سيرة أخرى عن السفر
لا يمكن السفر دون أمتعة، بل يكاد يكون من المستحيل التفكير في السفر من دون متاع، حتى قيل بأن تاريخ الأمتعة هو عينه تاريخ السفر، كيف نسافر؟ ولماذا نسافر؟ وأين نسافر؟ وماذا نحزم؟ بذلك يصبح التنقيب في تاريخ الأمتعة، بوجه من الأوجه، رحلة استكشافية في عوالم السفر والتجوال عبر التاريخ. وقطعا، لن تجدي مساعي الفصل بينهما نفعا، فحزم الأمتعة هو الخطوة الأولى في السفر متى كان متعمدا.
اقترنت الأمتعة بالسفر، منذ بداياته الأولى، اقتران الدال بالمدلول، وتباينت دواعي الترحال من عصر إلى آخر. كما تفاوتت وسائل تنفيذه، بحسب الطبيعة والمسافة والإمكانية.. وكذا الأغراض فسافر البشر لأسباب صحية "العلاج" ولدواعي دينية "التطهير" ولغايات أخرى غير ذلك. لكن السفر بنية السياحة والاستجمام، والسعي وراء المتعة والترفيه، أي ربطه بالإجازة وقضاء وقت الفراغ، واستهلاك الأشياء والأماكن على حد سواء، فكرة جد مستحدثة، وطارئة في التاريخ الإنساني. فحتى أواسط القرن 19، كان مصطلح الإجازة قرين الطلاب والمعلمين والمدارس، ولا علاقة له بوقت السياحة والتسلية، إذ لم يظهر مصطلح سائح إلا في 1800.
يمكن تعريف السفر إذن، ولو جزئيا من خلال تعمده أو الغرض من وراءه، وذلك لتمييزه عن الطرق الأخرى التي يتحرك بها الإنسان عبر الأماكن. يبقى عنصر الإرادة محددا جوهريا لتفريقه عن مآسي النزوح والتهجير والترحيل القسري.. وتجعله الغاية مختلفا عن روتين الذهاب اليومي إلى العمل كل صباح، حتى ولو كان فارق المسافة بين نقطتي العيش والعمل، يتطلب رحلة يومية، فذلك ليس من السفر في شيء، لغياب القصد وانعدام المتاع.
في البحث عن الأمتعة التي توصف بأنها "ذاكرة السفر" نجدها تشير إلى كل المتاع الخاص بالمسافرين والركاب، خاصة منه المنقول عن طريق وسائل النقل العام. غالبا، ما يطلق عليه اسم "الحقائب". وتفيد الحفريات اللغوية في أصول كلمة الأمتعة بالإنجليزية luggage وbagages أنها تعود إلى ثقافة الحرب، فعلى مدار قرون كانت تدل على المتاع والذخائر وإمدادات الجيش، بما فيها من صناديق وحقائب الظهر وأدوات الطعام.
تدريجيا، دخلت الكلمة حيز التداول في المجال المدني، حتى صارت مرادفا لحقائب السفر. وهكذا صار من الصعب التفكير في الحياة دون حقائب، فقد حول الإنسان العالم بأسره إلى حقائب. فأضحت الكتب حقائب اللغة، وصارت بمقدور الحقيبة الدلالة عن لوعة الفقد والفراق، حين يخبرك شخص افتقدك، بقوله، "ضعني في حقيبتك واصحبني معك". وقد تتحول إلى شاهد عن الكوارث، طبيعية كانت أو بشرية، فأخبار الإبادة الجماعية أو تحطم الطائرة عادة ما ترافقها صور حقائب تطفو في المحيط أو مبعثرة هنا وهناك، دون أن نرى أصحابها.
البحث في تاريخ السفر والحقائب، يكشف عن ظهور "الحقائب الناطقة" بداية القرن 19، نتيجة ازدهار تجارة المهاجرين التي حددت نقل الركاب استنادا إلى تقسيم طبقي صارم، بين عالم غني ينتمي للدرجة الأولى فوق أسطح السفن، وعالم المساحات الضيقة بالأسفل، حيث يسافر أصحابه في أرخص مكان في السفينة، بجانب مخزن السلع والبضائع. تبقى هذه الحالة أفضل من مما يتهدد مسافري الدرجة الثالثة، في السفن الشراعية، التي تلقب باسم "سفن التوابيت"، حيث كانت معدلات الوفاة، تصل إلى 10 في المائة، في صفوف ركاب تلك الدرجة.
ارتباطا بالموت، حتى أكياس الجثث من الأمتعة، فالجثة هي شخص تحول إلى شيء، وصارت خاضعة لقواعد نقل، وفق إجراءات خاصة، في توابيت حول العالم في عنابر الشحن في الطائرات التجارية. وجب التنبيه هنا إلى أن الكيس أو التابوت هو المتاع، وليس الجسد الذي في داخله. ما يولد تعريفا آخر للأمتعة يفيد بأنها أي شيء يحمي شيئا أو مجموعة أشياء، تكون بسببه قابلا للنقل.
انتشر في بريطانيا في القرن 17 تقليد الرحلة الطويلة، في صفوف الطبقة الأرستقراطية، كشكل من أشكال التعلم، ووسيلة لاكتساب الخبرة، ونيل الحظوة والتقدير في أوساط النبلاء. فكانت الجولة الكبرى، التي سادت لنحو قرنين بين نبلاء المتجمع البريطاني، دينا في رقبة أي رجل إنجليزي نبيل طموح. تتميز الرحلة بأمتعة خاصة ومميزة، وينتقى لها خدم وفق شروط محددة، تسند إليهم مهمة إدارة وتدبير متاع الرحلة الذي يكون عادة عبارة عن صناديق.
بعيدا عن تفاصيل التاريخ، تحمل الأمتعة في طياتها فلسفة خاصة، فهي ليست مجرد حقيبة أو قائمة محتويات، بقدر ما هي رؤية للذات والعالم، وطريقة للتفكير في الأشياء التي نحملها معنا في الحياة. وقبل ذلك، إجابة غير معلنة عن سؤال لماذا؟ نعم، لماذا نحمل في أمتعتنا الأشياء التي نعتقد أننا سنحتاج إليها. واختيار هذه الأشياء، أي حزم الأمتعة، هو في الحقيقة تمرين في التوقع، وفي تخيل المجهول، ومحاولة ترقبه، والاستعداد له.
وتضفي على السفر تأويلات خاصة، فالإنسان وهو يتأبط أمتعته، يسافر دون أن يعرف أنه يرافق نفسه. فالمرء حين ينتخب متاع السفر، على ضوء ما يتاح لديه من حدود، إذ لا توجد حقيبة سفر غير محدودة، يحمل معه ذكريات وتجارب. فالحقائب، لو دققنا النظر، تخفي في ذاتها أسرارا تماما كما يفعل الكتاب، حتى قيل "عندما تفقد الحقائب، تفقد أسرارها".
ارتباطا بمسألة الفقدان، تعد الأمتعة المفقودة واحدة من مشكلات السفر في العصر الحديث، فالإنسان ضعيف في هذا العالم من دون أمتعة، وهذا جوهر الخوف من فقدان الأمتعة. حجم الظاهرة أدى إلى إنشاء أماكن خاصة بها، على غرار مركز الأمتعة غير المطالب بها، الممتد على مساحة تبلغ 12 ألف قدم مربعة، هو مكان للحقائب غير المستردة، والمقبلة من شركات الطيران وخطوط الحافلات والسفن والسياحية وشركات تأجير السيارات حتى المنتجعات.
يستقطب المركز أكثر من 800 ألف زائر سنويا من أكثر 40 دولة، بحثا عن هذه الأشياء التي ليس لها مالك. هكذا وبخطأ بسيط، تتحول ذاكرة وذكريات الإنسان إلى سلعة تباع في المزاد، فخلال عام واحد، فقدت نحو مليوني حقيبة في الولايات المتحدة، وأكثر من 21 مليون حقيبة في العالم.
ما دامت حقائب وأمتعة، فلا ضير من تدويرها، فسيرة الإنسان، كما تعتقد الكاتبة الإنجليزية كاثرين مانسفيلد "1888-1923"، تكاد تكون مطابقة لحياة الحقيبة. "أعتقد أن الناس مثل الحقائب، معبؤون بأشياء معينة، يبدؤون بالذهاب، يرمون يقذفون بعيدا، ويلقون على الأرض، ويفقدون ويعثر عليهم، يفرغ نصفهم فجأة، أو يضغطون لاحتواء أشياء أكثر من أي وقت مضى، حتى يقوم الحمال النهائي في نهاية الأمر بأرجحتهم وقذفهم إلى القطار النهائي ليلفظوا أنفاسهم الأخيرة".