التضخم .. مهما كلف الأمر
لا تختلف الرؤية حيال التضخم لدى البنوك المركزية الرئيسة، وبنك التسويات الدولية، الذي ينظر إليه كبنك للبنوك المركزية، فهي لا تريد بالطبع تضخما مرتفعا بصرف النظر عن أي اعتبارات سياسية أو اقتصادية كانت.
وينظر أجوستين كارستنز، مدير بنك التسويات بحذر شديد إلى وجود تضخم كبير، وجامح على حد وصفه، إلا أن المسألة بجعل التضخم منخفضا ليست سهلة الحل، وربما تطلب الأمر أعواما في بعض الدول، كما أن التضخم أو ارتفاع أسعار المستهلكين، يبقى مقبولا وإن كان مرتفعا نوعا ما، إذا ما كان خاضعا بالفعل لسيطرة قوية من جانب المشرعين الماليين في هذا البلد أو ذاك.
والسيطرة هنا تعني أنه بالإمكان اختصار المسافة الزمنية بين تضخم مرتفع وآخر قريب من الحدود التي يتم وضعها من قبل البنوك المركزية.
بحسب بنك التسويات، فإن الدول تخاطر في بقاء معدلات التضخم مرتفعة، وسيطرة الموجة التضخمية على المشهد الاقتصادي العام، لكن ما الحلول التي يمكن أن تتبعها هذه الدول لإعادة مستويات التضخم إلى حدودها التقليدية المقدرة بـ2 في المائة كحد أقصى؟، وإذا كانت الاقتصادات المتقدمة تتحمل تضخما لفترة طويلة يبلغ 5 في المائة مثلا، فإنها باتت تتخذ بالفعل إجراءات صارمة وبعضها غير مسبوق لإبقاء الأسعار المرتفعة تحت حدود 10 في المائة إن أمكن.
المؤشرات كلها تدل على أنها ستقفز فوق هذا المعدل بنهاية العام الجاري، أي أنها ستنتقل إلى مرحلة الرقمين الاثنين، وهذا أمر يعد خطيرا في اقتصادات متقدمة، من الناحيتين السياسية والاجتماعية، وسيكون أخطر إذا ما طالت مدته. وبالنسبة إلى الأسواق الناشئة لا بأس بتضخم يصل إلى 7 في المائة حتى في الظروف العادية، لكن آثاره السلبية تتعاظم مع ارتفاعه أكثر بالطبع واستمرار مدته.
للإجابة عن السؤال بشأن الحلول المتاحة أمام البنوك المركزية للسيطرة على معدلات التضخم، وخفض مدة حضورها في المشهد الاقتصادي العام، تتبع هذه المؤسسات الحل الأسهل المعروف، وهو رفع الفائدة بكل آثارها السلبية أيضا، لكن هناك من يعتقد أنه يمكن المناورة حول محور مهم يمكن من خلاله السيطرة بصورة أو بأخرى على التضخم ولو بمستويات مرتفعة قليلا، وهو التفريق بين الأسعار التي ترتفع وتلك التي لا تواجه ارتفاعات، وهذه الرؤية يدعمها مدير بنك التسويات، لضمان تضخم أقل عمرا، وإذا ما تم ذلك فإن المعلومات الناتجة عن المباعدة بين الأسعار، ستساعد المشرعين الماليين على اتخاذ قراراتهم بما يدعم التحرك نحو إيصال التضخم إلى الحدود المأمولة، وأيضا هذا لن ينجح إلا بتعاون واضح من الشركات المنتجة التي يجب أن تتمكن من اتخاذ قرارات طويلة الأجل حيال الأسعار تحديدا، أو إبرام عقود طويلة الأمد.
هذه الطروحات ليست موجودة حاليا في الميدان الاقتصادي العالمي ككل، سواء في ساحات الاقتصادات المتقدمة أو الناشئة، لذا فالحل الأسهل هو رفع الفائدة، بحيث ستصل بنهاية العام في بلد كالولايات المتحدة إلى ما بين 3.5 و3.75 في المائة، على أمل إبقاء التضخم في حدوده الحالية وليس المستهدفة، والأمر كذلك في الدول الأخرى، وكلما طالت مدة التضخم المرتفع، تعمقت الأزمات الاقتصادية، بل إن ارتفاع الأسعار بات يحدد شكل الحكومات المقبلة، حيث يأمل الناخب أن توفر حلولا سريعة وأكثر عمقا، من بينها ربما، إقناع الشركات بسياسة تسعيرية طويلة الأمد، والتفريق بين أسعار المواد التي ترتفع وتلك التي لم تتغير، على الأقل في الوقت الراهن. وإذا كان الحل الذي يفترض أن تظهر نتائجه يتمثل في رفع أسعار الفائدة، فإن هذا الحل أصبح ملحا ومطلوبا أكثر من أي وقت مضى ومهما كلف الأمر.