لا توقف لمسار التضخم الأوروبي الصاعد .. الفائدة عاجزة عن الحل أمام فقاعات الأصول
يوم بعد آخر تتفاقم الأزمة المعيشية في كل من منطقة اليورو والمملكة المتحدة، فمعدلات التضخم آخذة في الارتفاع بشكل جعل منها العنوان الرئيس في وسائل الإعلام والحديث الأكثر انتشارا في الحياة العامة.
وبينما ارتفعت الأسعار في منطقة اليورو بنسبة 8.9 في المائة في تموز (يوليو) الماضي، محطمة الأرقام القياسية السابقة، فإنها حطمت أيضا الأرقام القياسية في المملكة المتحدة ببلوغها نسبة 10.1 في المائة في يوليو الماضي مقارنة بالعام السابق.
هذا الوضع الاقتصادي الضاغط دفع وزير المالية البريطاني إلى التخطيط لزيارة الولايات المتحدة، ملتمسا بعض المساعدة عبر لقاءات مع مصرفيين ومسؤولين أمريكيين للبحث عن حلول دولية لارتفاع التكاليف المعيشية، مؤملا أن يكون معدل التضخم في الولايات المتحدة البالغ 8.5 في المائة وهي نسبة أقل من توقعات السوق، مساعدا له للحصول على عون واشنطن في مجابهة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها بلاده.
ويساعده في ذلك اعتقاد بعض الخبراء أن ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة بلغ ذروته الآن، بينما تظل المملكة المتحدة ومنطقة اليورو عرضة بشكل كبير لتأثير الحرب الروسية الدائرة في أوكرانيا، ولا يزال أمامهما طريق طويل نسبيا سيواصل فيه التضخم الارتفاع، وقد أقر بنك إنجلترا بذلك حيث أعلن رسميا أن التضخم سيبلغ ذروته بأكثر من 13 في المائة بنهاية هذا العام، قبل أن يعود تدريجيا إلى المستوى المستهدف 2 في المائة في غضون عامين.
وفي الواقع، فإن هناك شكوكا من قبل كثيرين، بشأن هذا الشعور التفاؤلي لدى بنك إنجلترا حول إمكانية خفض التضخم إلى 2 في المائة خلال عامين أو في أي وقت قريب، فحتى أشهر قليلة مضت عزى أغلب المسؤولين في كبرى البنوك المركزية في نصف الكرة الأرضية الشمالي ارتفاع الأسعار دوليا إلى عوامل مؤقتة، معتبرين أن الأسواق ستعدل نفسها بنفسها دون حاجة إلى تدخلهم، وألقوا اللوم بشكل أساسي على الاختناقات اللوجستية وقيود الإنتاج بسبب جائحة كورونا.
بل إن بعض كبار المسؤولين في المجلس الفيدرالي الأمريكي، برروا ارتفاع الأسعار بأنه نتيجة انخفاض تكلفة عديد من المنتجات بشكل غير طبيعي أثناء عملية الإغلاق، وكان من المحتم أن يرتفع التضخم مؤقتا عندما تعود الأسعار إلى مستوياتها السابقة.
هنا، ترى الدكتورة تشارزي هامر الاستشارية السابقة في بنك إنجلترا، أن البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا لم يتخذا حتى الآن سوى خطوات صغيرة للسيطرة على التضخم، حيث إن بنك إنجلترا رفع أسعار الفائدة القياسية من 0.1 في المائة إلى 1.75 في المائة، بينما كانت في الأزمة المالية 2008 تراوح بين 15 في المائة أوائل التسعينيات و5 في المائة قبل اندلاع الأزمة المالية".
وبالتالي فإن العودة إلى الوضع الطبيعي من وجهة نظرها تعني زيادة معدلات الفائدة إلى 5 في المائة على الأقل، أما في منطقة اليورو فإن الوضع الطبيعي هو 4.7 في المائة وهذا ما كان عليه معدل الفائدة أوائل هذا القرن.
وأضافت أن "هناك سببا واحدا واضحا للتضخم وهو أن معدلات الفائدة المنخفضة والتوسع في المعروض من النقود، بسبب سياسة التيسير الكمي التي طبقت بعد الأزمة المالية عام 2008، التي أوجدت وفرة شديدة من الأموال في أيدي المستهلكين، وارتفاعا في الطلب، في وقت تعطلت القدرات الإنتاجية وتوقفت إمدادات الطاقة الرخيصة، كما أن هذه السياسات النقدية شديدة المرونة أوجدت كثيرا من الفقاعات في جميع الأصول مثل العقارات والأسهم والمعادن الثمينة والعملات المشفرة".
ومن وجهة نظرها، أدى ذلك إلى مستويات غير مسبوقة من عدم المساواة في جميع المجتمعات، كما نجم عن ذلك تضخم في الطلب من خلال جعل الأشخاص الذين يمتلكون هذه الأصول يشعرون أن لديهم القدرة على تحمل المزيد من النفقات.
وأشارت هامر إلى أن التصدي للتضخم عبر رفع أسعار الفائدة قد يجعل الاقتصاد العالمي يواجه مواقف لا تحمد عقباها، فمستوى الدين العالمي قد وصل إلى مستويات لم يسبق لها مثيل، إذ بلغ إجمالي الدين العالمي 303 ترليون دولار، وهناك الكثير من الأصول تعاني فقاعات قد يؤدي انفجارها إلى اهتزازات ضخمة في الاقتصاد الكلي، ويتطلب هذا الوضع الحساس من البنوك المركزية توخي الحذر الشديد عندما يتعلق الأمر برفع أسعار الفائدة لمكافحة التضخم، لكن في الوقت ذاته فإن رفع أسعار الفائدة قليلا فقط، يعني أن التضخم سيظل مرتفعا لفترة أطول.
وتزداد سبل مكافحة التضخم في المملكة المتحدة ومنطقة اليورو تعقيدا نتيجة الأوضاع الراهنة لكل من الاسترليني واليورو، إذ إن وضع العملتين يدخل ضمن مجموعة العوامل التي يحتمل أن تؤدي إلى مواصلة التضخم تقدمه لأعوام مقبلة، فالاسترليني واليورو مصابان بالضعف في مواجهة العملات الدولية الأخرى وتحديدا الدولار الأمريكي الذي تثمن به الأغلبية العظمى من السلع العالمية، ويتوقع أن يستمر ضعف العملتين لفترة طويلة، ما يتسبب في ارتفاع تكلفة الواردات مثل الغذاء والطاقة.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" الخبير المصرفي فرانك ألكسندر، إن "الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة مقارنة بأسعار الفائدة في منطقة اليورو أو المملكة المتحدة، يجعل الدولار أكثر جاذبية مقارنة باليورو والاسترليني، يضاف إلى ذلك فجوة الاستثمار والإنتاج في المملكة المتحدة مقارنة ببلدان مجموعة السبع الأخرى، واستمرار المشكلات الاقتصادية الهيكلية في بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا دون أن تجد حلا جذريا لها".
وأعرب ألكسندر عن مخاوفه من إمكانية حدوث تدهور اقتصادي مفاجئ في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي عامة ومنطقة اليورو خاصة مع ارتفاع غير محسوب في معدلات التضخم، في ظل احتمال حدوث حرب تجارية بين لندن وبروكسل نتيجة الخلافات الحادثة بينهما بشأن بعض القضايا التي تعد من تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكنها لم تحل حتى الآن وتزداد حدة مع مرور الوقت.
وبالنسبة إلى المملكة المتحدة، فإن معاناتها مع أعلى معدل تضخم في مجموعة السبع، يترافق مع أضعف توقعات للنمو بين بلدان مجموعة العشرين باستثناء روسيا، إذ قالت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إنها تتوقع ركودا اقتصاديا في المملكة المتحدة في عام 2023، بينما ستحقق منطقة اليورو نموا بنسبة 1.6 في المائة فقط.
وفي الوقع، فإن الجمع بين التضخم المرتفع للغاية والنمو الضعيف سواء في منطقة اليورو أو المملكة المتحدة، يمثل تحديا لواضعي أسعار الفائدة في البنك المركزي الأوروبي أو بنك إنجلترا.
من ناحيته، ذكر لـ"الاقتصادية" إل. إم. رايلي الخبير في تحليل البيانات في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، أن "استمرار التضخم المرتفع والنمو الضحل أو الركود الاقتصادي والمتوقع أن يستمر في بريطانيا ومنطقة اليورو حتى نهاية العام المقبل، يعني أن التعويل على تحريك أسعار الفائدة لأعلى للسيطرة على التضخم ربما لا يمثل حلا جوهريا للمشكلة، ولن يساعد على التحكم في عدد من محركات ارتفاع الأسعار، إذ لا يمكن لرفع الفائدة خفض أسعار الطاقة أو زيادة المعروض من العمالة في الأسواق أو أن يؤثر في سلاسل التوريد العالمية".
وأضاف أن "معدلات البطالة في المملكة المتحدة لا تتجاوز 3.8 في المائة أما في منطقة اليورو فتبلغ نحو 6.6 في المائة، وبصفة عامة تعد تلك المعدلات منخفضة، وهذا يوجد مشكلة في إدارة التضخم عبر رفع أسعار الفائدة، فسوق العمل شديدة الضيق ولا يمكن وضع ضغوط كبيرة عليه، وزيادة الأجور تعني زيادة الطلب من قبل العمال ومن ثم تغذية التضخم".
من هذا المنطلق، يرى بعض الاقتصاديين أن الطريقة الأكثر فاعلية للسيطرة على التضخم في كل من المملكة المتحدة ومنطقة اليورو هي فرض ضرائب على الأرباح وعلى الشرائح ذات الدخول المرتفعة في المجتمع، على أمل أن يساعد ذلك على خفض الإنفاق الاستهلاكي.
وسيمثل هذا التوجه من وجه نظر الاقتصاديين، إضافة إلى رفع أسعار الفائدة، وسيلة مثلى لخفض المعروض النقدي ومن ثم الطلب، ويؤدي إلى تفكيك تدريجي لعديد من الفقاعات الاقتصادية في مجال الأصول، دون أن يتم ذلك بشكل مفاجئ يترك تأثيرات عنيفة في النظام الاقتصادي ككل.