اقتصاد عالمي في «نفق»
"الاقتصاد العالمي يواجه الخطر"
ديفيد مالباس، رئيس البنك الدولي
لم تعد التحذيرات بمشكلات إضافية يتعرض لها الاقتصاد العالمي خبرا. فالكل يعلم أن هذا الاقتصاد يمر بنفق لن يكون قصيرا، فضلا عن أن ضوءه ضعيف جدا، بينما ليست هناك دلائل على انفراجات قريبة حتى إن كانت متواضعة. تعديلات توقعات نمو اقتصاد العالم تجري دائما باتجاه الخفض وليس الرفع، وستبقى هكذا إلى أن تتضح الصورة. وهذه الأخيرة لن تكون واضحة قبل أن تتحدد معالم المرحلة المقبلة، المرتبطة بالطبع بتطورات وتفاعلات. بعضها انتهى "مثل جائحة كورونا"، لكن تفاعلاته لا تزال باقية، وبعضها الآخر حاضر "كالحرب في أوكرانيا"، يعطل أي محاولة لمواجهة الأزمات الاقتصادية المتنامية، أو الحد من ضرباتها. فضلا عن المشكلات الاقتصادية الثنائية التي لم تنته بين الولايات المتحدة والصين، ولا تبدو نهاية لها، طالما ظلت في نطاق سياسي أكثر منها اقتصادي.
ارتفاع مستوى التضخم عالميا، وتباطؤ النمو، عاملان قلما يحضران في فترة واحدة. لكنهما يشكلان الآن المشهد الاقتصادي العام. حتى التباطؤ يبدو أنه توصيف "ملطف" للانكماش. فالولايات المتحدة مثلا، سجلت انكماشا في الربعين الأول والثاني من هذا العام، إلا أن المؤسسة السياسية ترفض الاعتراف إلا بالتباطؤ. والأمر ليس مختلفا كثيرا في الاقتصادات المتقدمة. وبصرف النظر عن التسميات والتوصيفات، والمآرب السياسية، فإن حال الاقتصاد العالمي سيئ حتى إن تمكن من تجنب الركود. وهذا الأخير تعده بعض الجهات الدولية حتميا، لكن البعض الآخر يرى أن الأمر ليس كذلك. التحذيرات الراهنة تبقى ضمن إطار التباطؤ الحاد في النمو. فالمعطيات كلها تدل على إمكانية حدوث ذلك قبل حلول العام المقبل، وأدوات المواجهة ليست متوافرة بعد.
وفق الإحصائيات العالمية الأخيرة لمديري المشتريات، يشهد الاقتصاد العالمي حاليا ضعفا في التصنيع والخدمات، لأن ارتفاع الأسعار أثر في القدرة الشرائية. ماذا يعني ذلك؟ انخفاض النشاط التجاري في اقتصادات محورية، مثل الولايات المتحدة وأوروبا واليابان. ويعني أيضا تباطؤا حادا في النمو الاقتصادي. الأسباب متعددة، لكن السبب الأهم يبقى حاليا ضمن إطار الحرب في أوكرانيا، التي قوضت سلاسل التوريد، علما بأن هذه الأخيرة لم تكن على ما يرام قبل هذه الحرب أصلا. وبالمحصلة يتعرض النشاط التجاري لانتكاسات آتية من التضخم المرتفع الذي لا يتوقف عن الصعود، ونقص المواد، وتأخير التسليم، وارتفاع في أسعار الفائدة المستمر أيضا. ويبدو واضحا، أن الفائدة المرتفعة ستكون العنوان الأبرز بعد التضخم لهذا العام، بعد أن وجدت البنوك المركزية الرئيسة، أن لا مفر من اللجوء إليها.
إذا كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، لا تريد الاعتراف بالانكماش. فاقتصاد منطقة اليورو في حالة انكماش فعلا، وفق تقرير حديث لبنك "باركليز"، لكن لن يعلن ذلك رسميا إلا في الربع الأول من العام المقبل، على اعتبار أن آثاره ستكون واضحة، بما يجعل من الصعب الالتفاف حولها. وفي اليابان حتى أستراليا وكندا يتراجع النشاط التجاري بقوة، في حين خفض البنك الدولي توقعاته للنمو في الصين "ثاني أكبر اقتصاد في العالم" إلى 4.3 في المائة هذا العام، بينما تعتقد جهات دولية أخرى أن هذا النمو سيكون أقل بحلول نهاية العام الحالي. أما الاقتصادات الناشئة، فهي الأخرى تمر بفترة خطيرة على الجانب الاقتصادي، أضف إلى ذلك ارتفاع تكاليف ديونها مع كل رفع للفائدة الأمريكية، ما يرفع من وزن الأعباء عليها.
وفي إطار الحديث عن النمو، قد يحقق الاقتصاد الأمريكي نموا 2.5 في المائة هذا العام، بما يقل 1.2 في المائة عن توقعات سابقة، لكن هذا يرتبط بمدى قدرة أكبر اقتصاد في العالم على تحقيق قفزات نوعية في الربعين المتبقين من العام الجاري. وهناك بعض التوقعات للنمو في منطقة اليورو تدور حول 2.5 في المائة، إلا أنها لا تستند إلى حقائق قوية. واللافت أن البنك الدولي توقع لأوكرانيا نموا هذا العام قبل الحرب، إلا أن اقتصادها انكمش 45.1 في المائة، في حين يدور انكماش اقتصاد روسيا حول 10 في المائة.
وفي كل الأحوال، كل هذه المؤشرات وغيرها، أثرت بصورة مباشرة بالطبع في النمو المتوقع للاقتصاد العالمي، مع ضرورة الإشارة إلى إمكانية أن يدخل بالفعل حالة الركود في الأشهر المتبقية من هذا العام. فحتى اليوم، لا يوجد مؤشر واقعي لتحديد معدل نمو حقيقي له، وكل التوقعات لهذا العام تشير إلى مزيد من الخفض. وعلى هذا الأساس، فإن نمو الاقتصاد العالمي يبقى مرتبطا بتلك التطورات المخيفة على الساحة الدولية، في الوقت الذي تغيب عن المشهد العام، أي محاولات للحد من الأزمات التي يواجهها، أو التخفيف منها. وأن الخلافات السياسية تتفاقم، والصراعات الجيوسياسية تتعمق هنا وهناك. والسؤال الأهم يبقى: هل يمكن تجنب ركود عالمي، أو نمو صفري هذا العام والعام المقبل؟ في ظل المعطيات والتطورات الراهنة، يصعب التكهن بإمكانية منع العالم من الوقع في ركود ربما استمر حتى منتصف العقد الحالي.