صرامة نقدية .. بعض الألم

مفهوم الاقتصاد أساسا هو علم تجريبي، يتطور مع استنتاج قوانين جديدة تشمل ظواهر إضافية، وهذا الوضع يستنتج منه أن يكون علم الاقتصاد مستقلا وموضوعيا، ومع ذلك، فإن عددا لا يستهان به من الاقتصاديين يرون أنه علم يتطور استجابة لعوامل ليست علمية بالضرورة، والسبب يعود إلى أن الاقتصاديين يعملون ضمن سياق اجتماعي واقتصادي وثقافي وسياسي.
فالأحداث في هذا السياق تؤثر في منهجية الاقتصاد وكيف يراه الاقتصاديون. نتيجة لذلك، فإن بعضهم يعده علما غير موضوعي، ولا شك أن هذا الجدل مهم لتحديد مصير مدى قدرة متخذي القرار بالاعتماد على مخرجات هذا العلم في التنبؤ بما سيحدث في المستقبل، وتخصيص مواردهم الاقتصادية المحدودة من أجل تعظيم منافعها.
من المهم وضع هذا التصور عن علم الاقتصاد في الذهن، مع قراءة تصريحات جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأخيرة، التي أكد فيها أن الاقتصاد الأمريكي سيحتاج إلى سياسة نقدية صارمة لبعض الوقت قبل أن يصبح التضخم تحت السيطرة، وتكلفتها ستعني تباطؤ النمو وسوق عمل أضعف وبعض المعاناة للأسر والشركات، منبها إلى عدم وجود علاج سريع لارتفاع الأسعار، لكن أهم ما قاله هذا المختص المهني، "إن السجل التاريخي يحذر بشدة من تخفيف السياسة النقدية قبل الأوان". فما السجل التاريخي الذي بنى عليه رئيس الاحتياطي الفيدرالي قراراته؟
لا شك أن التضخم الكبير الذي حدث في النصف الثاني من القرن الـ 20، تحديدا في الفترة من 1965 إلى 1982، يعد السجل التاريخي المقصود. واستمر ذلك التضخم نحو عقدين من الزمن، وتعد تلك التجربة -وفقا لاقتصاديين أمريكيين بارزين- "أكبر فشل لسياسة الاقتصاد الكلي الأمريكية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية". بدأ التضخم في 1964 بمعدل تضخم أكثر بقليل من 1 في المائة حتى وصل إلى أكثر من 14 في المائة في 1980 قبل أن ينخفض في النصف الأخير من الثمانينيات إلى متوسط 3.5 في المائة فقط.
ومعلوم أن سياسة الاستقرار الكنزية "نظرية اقتصادية" التي تم تبنيها بعد الكساد العظيم هي المسبب الأول لأطول فترة تضخم شهدها الاقتصاد الأمريكي خصوصا، وجاءت الحلول الكنزية بعد مخاض مؤلم لأزمة اقتصادية لم يشهدها التاريخ الاقتصادي المكتوب، مصحوبة بالبطالة المرتفعة خلال الثلاثينيات، وكان الحل مكتوبا بصورة مرضية مع منحنيات مقنعة كي تؤيد فرضيات، مفادها أن هناك علاقة مستقرة بين البطالة والتضخم، فالحصول على معدلات بطالة منخفضة يتطلب الرضا بمعدلات تضخم أعلى، لكن مع ارتفاع أسعار الشركات أصبحت العلاقة بين التضخم والبطالة تسير بعكس السجلات التاريخية، فالتضخم والبطالة مرتفعان معا وبشكل غير مقبول، فيما سمي لاحقا "الركود التضخمي".
في 1964 كان التضخم 1 في المائة والبطالة 5 في المائة، لكن بعد عشرة أعوام تجاوز التضخم حاجز 12 في المائة والبطالة أعلى من 7 في المائة، ومع بدايات الثمانينيات 1980 كان التضخم قد وصل فعلا إلى مستوى 14.5 في المائة، والبطالة تجاوزت 7.5 في المائة، وهكذا كان "الفيدرالي" بحاجة إلى أكثر من عقدين من الزمان ومجموعة من السجلات التاريخية ليصبح واثقا تماما من أن العلاقة بين التضخم والبطالة ليست مستقرة تماما، وأن التضخم يمكن فعلا أن يحدث بحدة مع وجود بطالة مرتفعة، وأن الركود التضخمي واقع اقتصادي جديد. هكذا هي المشكلة دائما في الاقتصاد التجريبي المبني على السجلات التاريخية، لا يساعدك على التنبؤ بما لم يتم التنظير له.
من هنا يهدف البنك إلى استقرار التضخم بمرور الوقت دون إبطاء النمو الاقتصادي كثيرا وفقدان الوظائف، لكن السيناريوهات الأقل وردية قد تتحقق، بما في ذلك الاقتصاد المحكوم بارتفاع الأسعار والنمو المقيد.
واليوم أصبحت مصطلحات مثل: الكساد والتضخم الكبيرين والركود التضخمي والمنحنى، ليست نظريات معروفة لها سجل تاريخي فحسب، ولذلك يستجليها رئيس البنك المركزي الأمريكي خلال كلمته في ندوة للبنوك المركزية في جاكسون هول في ولاية وايومنج، التي وضع فيها التجربة الأمريكية أمام عينه، وهو يقول "إن خفض التضخم يتطلب اتخاذ إجراءات ستجلب بعض الألم للأسر والشركات، فهذه هي التداعيات المؤسفة لخفض التضخم. لكن الفشل في استعادة استقرار الأسعار سيعني ألما أكبر بكثير وتداعيات أضخم".
لا أحد يمكنه أن يجادله في ذلك، فنسبة تضخم اليوم هي الأعلى في الولايات المتحدة منذ 40 عاما، مع وصول مؤشر أسعار المستهلك إلى 8.5 في المائة بمعدل سنوي، وتبين السجلات التاريخية أن أفضل حل لمقابلة التضخم في فترات ما بعد انهيار نظام بريتون وودز، هو أسعار الفائدة، ويعني دفع نسب الفائدة إلى نطاق يقيد السيولة، لكن تجربة إدارة نيكسون للسيطرة على التضخم بين 1971 و1974، التي استخدمت المبادئ نفسها تقريبا أدت إلى إبطاء ارتفاع الأسعار مؤقتا، بينما أدت إلى تفاقم النقص في الغذاء والطاقة، ما دفع إلى إيقاف تلك السياسات ليستمر التضخم أكثر مما ينبغي، وهذا ما كان يقصده باول، عندما أكد أن السجل التاريخي يحذر بشدة من تخفيف السياسة النقدية قبل الأوان، ويجب أن نستمر في ذلك حتى تنجز المهمة.
إن هذا الاتجاه الذي يسير فيه "الفيدرالي الأمريكي" على خلاف 1971 يجد مؤيدين له من الصقور المتشددين الذين يتوقعون أن تصل معدلات الفائدة إلى 4 في المائة بحلول نهاية العام، وتقول إستر جورج رئيسة الاحتياطي الفيدرالي في كنساس سيتي "إنه ما زال هناك مزيد من العمل المطلوب، ويتعين تسجيل ثلاثة أشهر من التباطؤ على الأقل لرؤية منحنى مقنع لانخفاض الأسعار".
إذن، ما الذي يمكن إضافته إلى هذا الرصيد الفكري؟ هل يمكن القول إن التاريخ قد انتهى فعلا، ونحن فقط نستعيد ما تم إنجازه من قبل؟ من المدهش حقا رؤية الأحداث الاقتصادية العظيمة تتكرر مرة أخرى لكن بوتيرة سريعة، فالانهيارات المالية في 2008 ذكرتنا جميعا بانهيارات الأسواق المالية قبل الكساد العظيم، ولمعالجة الأزمة تم اتخاذ الإجراءات نفسها من تيسير كمي ضخم، وفقا لنظرية كنزي، ثم تلا ذلك فترة من الركود، ففترات نمو قصيرة قبل دخول العالم في الأزمة الصحية التي أعادت إلى الأذهان مشكلة الكساد الكبير، وتطلبت إجراءات دعم واسعة للأسر والمنشآت وخفضا لأسعار الفائدة بشكل لم يشهد التاريخ له مثيلا، قبل أن نشاهد اليوم شبح الركود التضخمي مع حرب وعقوبات اقتصادية وارتفاع أسعار النفط ليأتي الحل برفع سعر الفائدة، وقد نشاهد أسعارا تاريخية.
فالتجربة الإنسانية التي مرت خلال قرن من الزمان تمت استعادتها خلال عقد واحد، فهل يشهد العالم تكرارها في المقبل من الأعوام وفقا لسيناريوهات أكثر سرعة؟ وهذا هو السؤال المطروح والأكثر إلحاحا اليوم، بعد ثلاثة أعوام من انتشار الوباء والاضطراب الاقتصادي الذي أحدثه وما تبعه من الحرب الروسية - الأوكرانية. يقف "الاحتياطي الفيدرالي" عند نقطة تحول أخرى حاسمة تتعلق بسيناريوهات قضايا ارتفاع معدلات التضخم ورفع أسعار الفائدة ومفهوم الكساد الكبير، ومصطلحات اقتصادية جديدة ومتطورة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي