حتى تضع الحرب أوزارها .. لا خلاص من الأزمة الاقتصادية ولا نهاية تلوح في الأفق
قبل ستة أشهر أو ما يزيد قليلا، حلقت المقاتلات الروسية في سماء أوكرانيا لتقصف المواقع الاستراتيجية للقوات الأوكرانية، وبالترافق مع القصف الجوي تدفقت جحافل الجيش الروسي إلى داخل الأراضي الأوكرانية، بهدف السيطرة على المدن والبلدات القريبة من الحدود المشتركة للدولتين.
وبصرف النظر عن مسار المعارك وإذا ما كانت العمليات القتالية وصلابة المقاتلين الأوكرانيين في ظل الدعم الغربي غير المسبوق مثلت مفاجأة للكرملين وتوقعاته بأن المعركة ستنتهي سريعا، فإن الأمر الذي يبدو أكثر واقعية أن قسوة التداعيات الاقتصادية لهذه الحرب على الاقتصاد الدولي لم تكن في الحسبان، على الأقل في الأيام الأولى التي لا تلوح لها نهاية في الأفق.
الحرب الأوكرانية تهدد بإطلاق ما وصفه أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة "موجة غير مسبوقة من الجوع والعوز في العالم"، إذ يواجه الناس على مستوى العالم أزمة مستفحلة من ارتفاع تكاليف المعيشة بصورة لم نشهدها منذ أجيال، مع صدمات متواصلة نتيجة ارتفاع أسعار الغذاء العالمي والطاقة والأسمدة في وقت لا يزال يصارع فيه العالم تبعات جائحة كورونا.
بلغة الأرقام التي تقدمها الأمم المتحدة يتعرض ما يقدر بنحو 1.6 مليار شخص في 94 دولة إلى بعد واحد على الأقل من أبعاد أزمة المعيشة الراهنة، ويعيش نحو 1.2 مليار منهم في دول وصفت بأنها تتعرض لـ"عاصفة كاملة"، أي تعاني الأبعاد الثلاثة للأزمة الحالية وهي مشكلات في توفير الغذاء، وارتفاع في أسعار الطاقة، ونقص في التمويل.
وتمثل تلك المعاناة جزءا من كل، حيث أعلنت منظمة التجارة العالمية في توقعاتها التجارية 2022 - 2023 أن آفاق الاقتصاد العالمي قد "أصبحت مظلمة" منذ اندلاع الحرب في 24 شباط (فبراير) الماضي، إذ خفض الاقتصاديون توقعاتهم لنمو حجم تجارة البضائع لهذا العام من 4.7 في المائة إلى 3 في المائة.
يرى البروفسير إل. سي. ديمون أستاذ الاقتصاد الدولي والاستشاري في الأمم المتحدة أن الحرب وضعت ضغوطا غير مسبوقة على الاقتصاد العالمي، الذي لم يكن قد تعافى تماما من جائحة كورونا، حيث إن تلك الضغوط ترجمت في شكل ارتفاع شديد في معدلات التضخم وزيادة حادة في عدم اليقين الاقتصادي وتآكل مستوى معيشة مليارات من البشر.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إنه وفقا لتحليل الفيدرالي الأمريكي فإن الحرب أدت إلى خفض مستوى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 1.5 في المائة وارتفاع التضخم العالمي بنحو 1.3 نقطة مئوية، ولن تنجو أي منطقة في العالم من ارتفاع أسعار السلع الأساسية، مع اضطرابات كبيرة في الإمدادات".
ويضيف "الاقتصادات الأوروبية من بين أكثر الاقتصادات عرضة للخطر، حيث ستكلفها الحرب ما لا يقل عن أربع نقاط انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي نمو الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي سيقارب الصفر هذا العام إن لم يكن سلبيا، أما الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وعددها 39 دولة فإن معدل التضخم سيصل إلى 9 في المائة مع تباطؤ في النمو ليصل إلى 2.8 في المائة".
مع هذا يمكن الإشارة إلى أنه على الرغم من التأثير واسع النطاق للأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب الروسية - الأوكرانية، فإن جميع المناطق لا تتعرض لتداعياتها بالدرجة نفسها، فبعض الدول والمجتمعات أكثر ضعفا وهشاشة من غيرها وفي حاجة إلى مساعدة عاجلة.
من جانبها، قالت لـ"الاقتصادية" فيكتوريا جاكسون من منظمة أوكسفام الخيرية، "إن الدول الواقعة في إفريقيا جنوب الصحراء لا تزال معرضة بشكل كبير للخطر، حيث يتعرض واحد من كل اثنين من الأفارقة في المنطقة لجميع الأبعاد الثلاثة للأزمة".
وأشارت إلى أن منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي هي ثاني أكبر مجموعة تواجه أزمة تكلفة المعيشة مع ما يقرب من 20 دولة متأثرة، ويمكن أن يهدد الفقر المدقع حياة وسبل العيش لنحو ثلاثة ملايين شخص في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي جنوب آسيا يرجح أن يتعرض 500 مليون شخص بشدة لأزمة الغذاء والتمويل.
هذا الوضع بتأثيره السلبي في مستويات المعيشة وخفض الإنفاق الاستهلاكي في جميع أنحاء العالم، جعل الأعمال التجارية أقل تفاؤلا بشأن الإنتاج المستقبلي، ومن ثم تراجع الاستثمارات، ما يهدد بأضرار لأعوام مقبلة خاصة المتعلقة بالعرض، حتى تضع الحرب أوزارها.
ويرى عدد من الخبراء أن أخطر ما نجم عن الحرب الروسية - الأوكرانية، أنها أوجدت أزمة اقتصادية تدور في حلقة مفرغة، لا يمكن إصلاح أي بعد من أبعاد الأزمة بمعزل عن الأبعاد الأخرى، ما يجعل عملية الإصلاح أو الخروج من الأزمة الاقتصادية أكثر تعقيدا.
فمعالجة جانب واحد من جوانبها لا يعني الخلاص من الأزمة الاقتصادية، فمع تراجع دخول الأسر، تضطر العائلات إلى اتخاذ قرار بشأن كيفية تخصيص الموارد المالية المتراجعة، من هنا تبدأ حلقة مفرغة جديدة تتعلق بدورة من الاضطرابات الاجتماعية التي توجد حالة من عدم الاستقرار السياسي نتيجة ضعف قدرة الدول والأسر على التعامل مع الأزمات الأخرى.
بدورها، ذكرت لـ"الاقتصادية" ريبيكا كريس الباحثة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن "التقديرات الحالية تشير إلى أن نحو 60 في المائة من القوى العاملة في العالم لديها دخل أقل مما كانت عليه قبل الوباء، ويعاني أكثر من نصف أفقر دول العالم ضائقة ديون أو معرضة بشدة لخطرها".
ونوهت بأن زيادة الجوع منذ بداية الحرب يمكن أن تكون أكثر انتشارا، خاصة أن تقديرات برنامج الأغذية العالمي تشير إلى أن عدد الأشخاص الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد قد تضاعف من 135 مليون شخص قبل جائحة كورونا إلى 276 مليونا خلال عامين من الجائحة، وهذا العدد يتوقع أن يرتفع نتيجة الآثار المتتالية للحرب في أوكرانيا إلى 323 مليون شخص هذا العام.
وارتفاع معدلات التضخم، أدى إلى لجوء البنوك المركزية إلى اتباع أسلوب أكثر تشددا فيما يتعلق بأسعار الفائدة في محاولة لاحتواء موجات التضخم التي تضرب الاقتصاد الدولي، لكن بعض الخبراء يرون أن سياسة التشدد النقدي قد تنجم عنها حالة من عدم الاستقرار المالي، إذ يمكن أن تؤثر في جميع جوانب النشاط الاقتصادي وظروف التمويل.
من ناحيته، أكد لـ"الاقتصادية" ريتشارد ويلش الخبير المصرفي، أن رفع أسعار الفائدة يمكن أن يسهم إلى حد كبير في خفض معدلات التضخم، لكن أيضا سيضعف الجاذبية المتعلقة بالاقتراض من أجل التوسع الرأسمالي، ما يعني تأثيرا سلبيا في المعروض من السلع والخدمات، إضافة إلى عدم التوسع في سوق العمل بما يلائم الزيادة في أعداد الأيدي العاملة.
وتابع "التشدد المالي يؤثر بشكل ملحوظ في أسعار الأسهم، وهذا ما حدث بالفعل على المستوى الدولي حيث تأثرت البورصات بسبب عدم اليقين الاقتصادي، ونظرا إلى الدور المركزي لأسواق الأسهم في النظام الاقتصادي الغربي، فإن الوضع بات أكثر تعقيدا أمام البنوك المركزية إذ عليها البحث دائما عن نقطة التوازن في أسعار الفائدة لدفع معدلات التضخم إلى الانخفاض دون التأثير في الأسواق الاستثمارية، وهذا التوازن يصعب تحقيقه أو بلوغه في كثير من الأحيان".
وتمثل روسيا أكثر من 10 في المائة من إنتاج النفط والغاز الطبيعي العالمي، ما يجعل للحرب الروسية على أوكرانيا والعقوبات الغربية التي فرضت على روسيا التي تضمنت مساعي جادة لتفكيك روابط أمن الطاقة بين روسيا وأوروبا التي تتجاوز نصف قرن حاليا، تأثيرات ضخمة للغاية في أسواق الطاقة العالمية، بل امتدت إلى انعكاسات سلبية للغاية على مجموعة من الصناعات الأوروبية الاستراتيجية خاصة في ألمانيا.
وبينما يرى بعض الخبراء أنه أيا كان المؤشر الذي يستخدم، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يفوز في أسواق الطاقة، ويكسب يوميا مئات الملايين من الدولارات لتمويل الحرب، بينما تواجه أوروبا والدول الفقيرة خيارات صعبة تتمثل في ارتفاع أسعار الطاقة وتنتهي بالتأثير السلبي في قدرة أوروبا الصناعية.
بدوره، ذكر لـ"الاقتصادية" كيلفورد جليتشرست الخبير في مجال الطاقة، أنه "بدءا من أكتوبر المقبل سترتفع أسعار الطاقة في المملكة المتحدة 80 في المائة، وبعض الخبراء يتوقعون أن يكون على البريطانيين المفاضلة في هذا الشتاء بين التدفئة والطعام، وعندما نتحدث عن بريطانيا فإننا نتحدث عن واحدة من أقل الدول الأوروبية الكبرى اعتمادا على الطاقة الروسية، فكيف ستكون الحال في ألمانيا التي تعتمد بشكل كبير على روسيا لإمدادها بالجزء الأكبر من احتياجاتها من الطاقة".
وأضاف "الحرب الروسية كشفت عن حاجة أوروبا إلى تنويع إمدادات الطاقة لتحقيق أمنها في هذا المجال، فالاعتماد المفرط على خطوط أنابيب الغاز الطبيعي الروسية مشكلة، فالاتحاد الأوروبي يلبي نحو 10 في المائة من طلبه على الغاز الطبيعي محليا والباقي مستورد، ومن ثم فهو أكبر مستورد للغاز الطبيعي في العالم، ويأتي الغاز الطبيعي المستورد إلى الاتحاد الأوروبي بشكل أساسي من روسيا بنسبة 41 في المائة والنرويج 24 في المائة والجزائر 11 في المائة".
وبالفعل فقد كشف تقرير صدر قبل أيام من معهد بحوث التوظيف أن الاقتصاد الألماني سيخسر أكثر من 265 مليار دولار من القيمة المضافة بحلول 2030 بسبب الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة، وتأثيرها السلبي في سوق العمل، كما سينخفض الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا 1.7 في المائة العام المقبل، وسيقل عدد الوظائف بنحو 240 ألف شخص.
من جانبها، تقول لـ"الاقتصادية" كاثرين ديفيد الباحثة في مجال الاقتصاد الأوروبي "القطاعات الكثيفة للطاقة في ألمانيا مثل الصناعات الكيمائية والمعادن ستتضرر بشدة من التطورات السلبية في أسواق الطاقة، إذ تضاعفت أسعار الطاقة وارتفعت 160 في المائة، والعام المقبل سيكون الاقتصاد الألماني أقل بنسبة 4 في المائة مما كان يمكن أن يكون عليه بدون الحرب".
وتعتقد كاثرين ديفيد أن الحرب الروسية - الأوكرانية وأزمة الطاقة الناجمة عنها ستؤديان إلى حدوث انكماش عميق في ألمانيا في الربع الأخير من هذا العام والربع الأول من العام المقبل.
مع هذا فإن المثل العربي القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد" ربما ينطبق في بعض الجوانب على الحرب الروسية - الأوكرانية، إذ تلقت أسعار الذهب دعما من الطلب القوي على المعدن النفيس باعتباره ملاذا آمنا.
وعلى الرغم من أن أسعار المعدن الأصفر ستظل متقلبة إلا أنه من المتوقع أن تواصل الارتفاع مع استمرار الحرب، كما سيستفيد منتجو السلع الأساسية في أستراليا وكندا وأمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا من ارتفاع هذه السلع وخسارة المعروض الروسي في الأسواق العالمية.
وبينما ستستفيد دول الشرق الأوسط المنتجة للنفط والغاز من ارتفاع الأسعار، فإن عديدا من الدول الآسيوية والإفريقية ستحقق أرباحا من ارتفاع أسعار عدد من السلع الأساسية.