البنية التحتية بحاجة إلى القطاع الخاص .. قصور وفجوة تمويلية رغم الـ 100 تريليون دولار
رغم الإجماع واسع النطاق بين الحكومات والقطاع الخاص على أهمية البنية التحتية لتطوير المجتمع ونمو الاقتصاد وتلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من السكان، فإن العالم لا يزال يعاني نقصا واضحا في الاستثمارات الموجهة لهذا القطاع الحيوي والاستراتيجي.
وفي عام 2019 كانت التقديرات المتاحة تشير إلى أن الاستثمار العالمي الفعلي في مجال البنية التحتية، يتوقع أن يصل إلى 79 تريليون دولار بحلول منتصف القرن، بينما ستتجاوز الاستثمارات المطلوبة على أرض الواقع لتطوير القطاع وتحديثه هذا الرقم بكثير، ما يعني وجود فجوة تمويلية ضخمة بين المعروض من الاستثمارات الموجهة للبنية التحتية والمطلوب فعليا، وسط إدراك بوجود حاجة ماسة إلى زيادة متوسط الاستثمار العالمي السنوي في البنية التحتية بنسبة يقدرها بعض الخبراء بنحو 23 في المائة تقريبا سنويا.
الدعوة الدولية لتوجيه مزيد من الاستثمارات للبنية الأساسية، تترافق مع تقديرات شركة بلوفر بيتي البريطانية وهي مجموعة بحثية رائدة في هذا المجال، من أن 75 في المائة من البنية التحتية التي سيكون العالم في حاجة إليها في منتصف القرن غير متوافرة بعد، آخذا في الاعتبار الطبيعة التكنولوجية شديدة التطور لمرافق البنية التحتية الحديثة التي يجب بناؤها أو تطويرها لتتناسب مع النمو المتواصل للاقتصاد الرقمي وعالم الإنترنت والذكاء الاصطناعي.
وفي عالم اليوم، يعزي الخبراء ما يقرب من ثلاثة أرباع الفجوة العالمية في الاستثمار في البنية التحتية إلى قطاعي الطرق والكهرباء، أما العجز الباقي فيتركز في مجال الاتصالات والسكك الحديدية والمياه والمطارات والموانئ.
وبينما يتركز الاستثمار في مجال البنية الأساسية في الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة وكندا واليابان ودول أوروبا الغربية في عملية الاستبدال والتحديث، فإن الأمر يختلف في الأسواق الناشئة أو الاقتصادات النامية، حيث الحاجة ماسة إلى بنية تحتية جديدة لتمكين الاقتصاد من تحقيق معدل أعلى من النمو، وتلبية الاحتياجات الأساسية للسكان من مرافق وشبكات نقل واتصال.
وحاليا يقدر البنك الدولي حاجة الدول النامية إلى استثمار 4.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالبنية التحتية، والبقاء على المسار الصحيح لتلبية احتياجات الأعداد المتزايدة من مواطنيها.
ويرى البروفيسور آر. جيسون الاستشاري السابق في برنامج المساعدات الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، أن معظم الحكومات لا تمتلك الموارد اللازمة لتمويل احتياجاتها من البنية التحتية بالكامل، ما يجعل مشاركة القطاع الخاص أمرا ضروريا.
وقال لـ "الاقتصادية" إنه "حتى مع وجود أكثر من 100 تريليون دولار في حوزة صناديق التقاعد وصناديق الثروة السيادية وصناديق الاستثمار المشتركة وغيرها من المستثمرين، فإن ما يجب إدراكه أن جهود القطاع الخاص للاستثمار في البنية التحتية لا يجب النظر إليها باعتبارها مسعى خيريا، وإنما يجب التعامل معها باعتبارها وسيلة تضيف إلى المحصلة النهائية من الأرباح المحققة، إذا نجحت الشركات الخاصة في جهود تأسيس وتطوير بنية تحتية حديثة بشكل فعال وناجح.
مع هذا فإن الدعوات تتصاعد الآن للبحث عن نهج جديد لشراكة مثمرة وملموسة بين القطاعين العام والخاص لتطوير البنية التحتية.
وبينما يطرح التعاون بين الشركات الخاصة والحكومات لتعزيز المرونة الاستثمارية في تطوير البنية التحتية الراهنة، فإن نقطة الانطلاق لا بد أن ترتبط بتوسيع نطاق تبادل المعلومات بين الجانبين لمعرفة جوانب القصور في هذا القطاع، حيث يمكن استكشاف نقاط الضعف الحالية والمستقبلية للإسراع بعلاجها.
في هذا السياق تحديدا، ترى الدكتورة جنيفر جرانت أستاذة النظم الاستثمارية في جامعة لندن، أن تعاون الشركات الخاصة والحكومات في تصميم شبكات البنية التحتية الحيوية في التخطيط الحضري، والتخطيط المشترك لتعاون أكثر استجابة لسبل التعامل مع الكوارث الطبيعية والهجمات السيبرانية، يضع أسس تعاون أكثر عمقا في مجال البنية التحتية الحديثة.
وذكرت جرانت لـ "الاقتصادية" أنه لا يوجد نقص في رأس المال الاستثماري الخاص المتاح، إنما يوجد قصور في العلاقة بين الحكومات والقطاع الخاص لتحديد الهياكل الاقتصادية التي يمكن أن تكون جذابة بما فيه الكفاية للمستثمرين، وتدفعها وجهة النظر تلك إلى الإشارة إلى اهتمام المستثمرين باستقرار البيئة التنظيمية عند تقييم حجم المخاطر الاستثمارية التي يمكن أن يتعرضوا لها.
وأضافت "يمكن للحكومات اتخاذ خطوات للحد من المخاطر الاستثمارية التي يمكن أن تواجه القطاع الخاص لتحفيزه على الإقدام على الاستثمار في مشاريع البنية التحتية عبر تعزيز أفكار الاستثمار المختلط".
وفي الواقع فإن سد الفجوة الراهنة في نقص الاستثمارات في مجال البنية التحتية بات أكثر تعقيدا بسبب الاحتكاكات والصراعات الجيوسياسية المتزايدة، فالتوترات تؤدي إلى زيادة تكاليف المشاريع، وتضغط على الميزانيات المنخفضة بطبعها، كما أن الحمائية الاقتصادية والتعريفات الجمركية المبالغ فيها، وغياب التنافسية السليمة تؤدي جميعا إلى زيادة تكاليف المشاريع للحد الذي يعيق عمليا تنفيذها.
بدوره، قال لـ "الاقتصادية" أليكس بارتي الباحث في الاقتصاد الدولي، إن "الدمج بين البنية التحتية والتكنولوجيا أمر لا مفر منه في الوقت الراهن، لكن المخاوف الأمنية المتزايدة بين القوى الاقتصادية الكبرى كمجموعة السبع بقيادة الولايات المتحدة من جانب والصين من جانب آخر، بشأن عمليات توريد التكنولوجيا، يجعل عملية تشييد الجيل التالي من البنية التحتية عملية أكثر تكلفة وصعوبة".
وأشار إلى أن "هذا يظهر في استبعاد الولايات المتحدة وعديد من حلفائها لشبكة 5G التابعة لشركة هواوي الصينية من البنية التحتية للاتصالات الخاصة بهم، وهو ما يجعل عملية تطوير البنية التحتية والتمويل أكثر تعقيدا وتحديا على المدى المنظور".
ويرى كثير من الخبراء أن العجز المستشري في البنية التحتية العالمية خاصة في الاقتصادات الناشئة والنامية، يجعل من نتائج المنافسة المحتدمة بين الصين من جانب ومجموعة السبع بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر، منافسة ذات أبعاد متعددة، في ظل التقديرات الدولية التي تشير إلى وجود فجوة تقدر بما يزيد على 40 تريليون دولار، بين ما يعتقد أن الدول النامية بحاجة إليه لتطوير بنيتها التحتية والأموال المتاحة للاستثمار في هذا القطاع.
في هذا السياق تتضارب وجهة نظر الخبراء، إذ يرى مات إيدسون الخبير الاقتصادي أن المنافسة الأمريكية - الصينية ستصب في مصلحة الاقتصادات الناشئة والنامية.
وقال لـ "الاقتصادية" إن "الاعتقاد السائد لدى مجموعة السبع خاصة الولايات المتحدة أن الوقت قد حان لوقف التمدد الصيني في الاقتصادات الناشئة والنامية، عبر طرح المجموعة نفسها كبديل أكثر تقدما تكنولوجيا من الصينيين عندما يتعلق الأمر بتطوير البنية التحتية، وهذا يعني أن الاقتصادات الناشئة والنامية ستكون لديها فرصة أكبر للمساومة بين التنين الصيني والنسر الأمريكي لتغطية أكبر قدر من العجز الاستثماري لديها لتأسيس بنية تحتية حديثة".
إلا أن الدكتورة كيتي ديموز أستاذة الاقتصادات الناشئة في جامعة كامبريدج، ترى أن المشهد المتعلق بتطوير البنية التحتية في الدول الناشئة أعقد من ذلك بكثير، وبغض النظر عن المنافسة الجيوسياسية بين قطبي الاقتصاد العالمي الولايات المتحدة والصين، فإن هناك حاجة ماسة في الجنوب العالمي إلى مزيد من الاستثمار في البنية التحتية الصلبة مثل السكك الحديدية عالية السرعة والكابلات البحرية لتعزيز وصول الإنترنت، وأن الدول النامية ليست قادرة على المنافسة والنمو بالمعدلات التي ينبغي أن تكون عليها، لأن تكاليف اللوجستيات والنقل لا تزال شديدة الارتفاع.
وذكرت لـ "الاقتصادية" أن "المنافسة الأمريكية - الصينية لتطوير البنية التحتية في الأسواق الناشئة أو النامية تبدو مفيدة لتلك الدول، لكن ما يحدث في التطبيق العملي أن تمويل الصينيين أو الأمريكيين للبنية التحتية لا يصب بالضرورة في مصلحة الدول التي يقومون بتمويل مشاريع البنية التحتية فيها، وإنما يرمي إلى تأسيس أو تطوير بنية تحتية تربط اقتصادات تلك الدول بالأسواق الصينية أو الأمريكية تحديدا أكثر من خدمة المجتمعات المحلية".