المخاطرة في تربية الأبناء
سنتحفظ إذا شعرنا أن القيام بأمر ما يعد مخاطرة بما نهتم به، مثل الأبناء. على الأرجح ستكون الفكرة العامة، "أبنائي هم أعز ما أملك ولن أسمح لنفسي أو لأحد أن يأخذ حياتهم في مغامرة غير محسوبة". لهذا، لو افترضنا في مثال خيالي أن الوالدين تم تخييرهما بين حصول طفلهما على غنيمة كبرى إذا حاول تجاوز شارع يزدحم بالسيارات وقد يعرضه ذلك للأذى، وبين بقائه بين أيديهما وتفادي هذا الخطر وتجاهل تلك الغنيمة، سيختاران دون أدنى شك بقاءه بين أيديهما. وبهذا المفهوم هناك كثير من التحفظ تجاه تربية الأبناء وكثير من الهدوء المتزامن مع هذا التحفظ، لأسباب أخرى مثل، عدم معرفة الفرص والحلول والأدوات المتاحة.
مفهوم المخاطرة في أساسه مختلف عن المذكور أعلاه. إذ إن معنى المخاطرة لا ينحصر في المبالغة في قبول الخطر، أو بعبارة أخرى، المخاطرة لا تنحصر في السلوك الذي نتفادى به النتائج السلبية. كل خطوة يتخذها الإنسان تتبعها درجة من المخاطرة. وتختلف النتيجة حسب درجة المخاطرة، هناك مخاطرة معتادة، وأخرى مقبولة، وقد ترتفع قليلا وتظل محسوبة، وقد ترتفع كثيرا وتصبح شيئا من التهلكة والإسراف، الاستثمار في التعليم مخاطرة، لماذا؟ لأن هناك اختيارات وكل اختيار له ما يخصه من فرص واحتمالات، تعليم أهلي أو حكومي أو عالمي، تعليم لا منهجي، دورات صيفية، ضغط مبكر ومستمر على الطفل، حرية خطرة، أو حتى ترك الأمور بعفوية دون خطة مرسومة، كل من ذلك يظل اختيارا له فرصه واحتمالاته. الاختيار بين استخدام المدرس الخصوصي وبين محاولة سد الثغرات بالجهد الذاتي أيضا قرار قائم على مخاطرة لن تظهر نتيجتها إلا نهاية العام، وربما بعد أعوام. التعليم مجرد مثال، بناء المهارات الشخصية خارج المدرسة أيضا مليء باحتمالات المخاطرة الإيجابية والسلبية. عزل الطفل عن البيئات السلبية يعني حمايته من السلوكيات السيئة لكن ربما يعزله أيضا عن فرص الاحتكاك الإيجابي والتجربة الجديدة. إيجاد بيئة مثالية وضمان مثاليتها ليشبع فضوله وينمي مهاراته أمر صعب، ويتطلب درجة عالية من الاستكشاف وبكل تأكيد، المخاطرة. إرسال الطفل في عمر مبكر نسبيا في رحلة طويلة مع مجموعة لا يعرفها مثال جيد، قليل من الأسر تملك شجاعة القيام بذلك.
وكما تتجلى قاعدة "كلما زادت المخاطر، زادت العوائد" في عالم الاستثمار، فهي تسري في كل مناحي الحياة. في الحب والارتباط مخاطرة، وفي التعلم والتجربة مخاطرة. النتائج التي يسعى إليها الناس لا تلتقي مع تفادي المخاطرة ومحاولة البعد عنها، فالتحفظ الشديد نتائجه محدودة وبائسة. وعلى النقيض، المخاطرة بلا تخطيط ومعرفة وتجربة، من طرق التهلكة والندم.
يتردد البعض عندما يفكر في استثمار تربوي أو تعليمي لأبنائه. يقول في نفسه، "ربما أدفع وأسجله في برنامج ولا ينتظم" ويسمع غيره يقول له، "هذي الطريقة ليست مجدية، لا تضيع وقتك". بينما يثبت الواقع أن المخاطرة يمكن ضبطها بالتجربة، لهذا تعد تجارب الآخرين مجرد مصدر للاستئناس بينما تحقيق المخاطرة المجدية يتطلب تجربة شخصية. لا يوجد ما يمنع أن يجرب الآباء عشرات البرامج ليحظى الابن بنتيجة واحدة إيجابية. تقوم المخاطرة على المعرفة التي تمكن من السيطرة على الاحتمالات، أو الحد من تقلباتها. ولهذا، ومن أجل المخاطرة المعقولة، يجب القيام بمجهود إضافي في البحث والتفكير، عن أفضل ما يصنع الحافز للطفل ليتحرك باتجاه ما، ليستثمر فضوله، وليحقق النمو في القدرات والمهارات. ما يرتبط بالمخاطرة في التربية، تقبل الفشل والاستفادة منه. الابتعاد عن المخاطرة ابتعاد مؤقت عن الفشل، لكنه فشل دائم. المخاطرة تعني نجاح خطوة وفشل أخرى، وتنتهي بعد التكرار بمعرفة طريق النجاح.
ليست المخاطرة حصرا على الأبناء فقط، حتى تعلم الشخص وبناؤه لذاته قائم على المخاطرة، وكلما ارتفعت الجرأة أتيح مزيد من الفرص والمخاطر، وتحققت النتائج. هناك من يغير وظيفته المستقرة ليفتح لنفسه مسارا جديدا، وهناك من يترك بابا للرزق ليدخل من باب أوسع. وهناك من يثقف نفسه في مجال غير مجاله. ومع البحث والتجربة ـ والدراسة والتقييم ـ تبدأ الخيارات في التجسد وتتضح للشخص مقدار المخاطرة التي تستحق المغامرة، ومقدار المخاطرة التي تستحق التحفظ. هناك علاقة طردية بين المخاطرة والعوائد المستقبلية التي تحسن من فرص الأبناء وتحسن نتائج دعمهم وتربيتهم، وهناك خطوط حمراء تستحق التحفظ وتستوجب علينا التوقف قبل بلوغها، المهم ألا نخلط بين هذا وذاك.