"صنع في الصين" .. مفتاح ثقافي للاستحواذ

"صنع في الصين" .. مفتاح ثقافي للاستحواذ
"صنع في الصين" .. مفتاح ثقافي للاستحواذ
"صنع في الصين" .. مفتاح ثقافي للاستحواذ

شاع الكلام أخيرا، تحديدا خلال فترة الرئيس دونالد ترمب، عن اندلاع حرب تجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، بعد قيام واشنطن برفع الرسوم الجمركية من 10 إلى 25 في المائة، على قائمة من الواردات الصينية. بكين من جانبها، لم تتأخر في رد مماثل، زاد من توتير علاقات دبلوماسية شبه مستقرة طيلة أربعة عقود ونيف. وانتهت تكهنات الخبراء "المنجمين" إلى اعتبار ذلك مجرد بداية لحرب تجارية كبرى في الأفق، فلدى كلا الغريمين نية وعزم وإرادة، من أجل استبعاد وتنحية الآخر من مسرح الأحداث العالمي.
ربما كان حريا بهذه الشلة، قبل الإسراف في التوقع والتقدير، أن تبتعد قليلا عن التخصص، وتميل نحو عالم الأدب والسرد، بحثا عن كتاب (365 يوما دون "صنع في الصين") لسارة بونجورني الكاتبة والصحافية الأمريكية، الذي يسرد تفاصيل تجربة مثيرة للاهتمام، استمرت عاما كاملا، امتدت وقائعها على 12 فصلا، حول قرار أسرة أمريكية "أم وأب وطفلين"، التخلي عن شراء المنتجات الصينية. فإطلالة على عجيب وغريب ما تضمنه الكتاب من حقائق وحوادث، كفيلة بتقليص سقف التوقع بشأن مستقبل الحرب التجارية بين الدولتين.
استطاعت الكاتبة أن تخوض غمار هذه التجربة الفريدة، بعد معركة من أجل إقناع زوجها كيفن، المتردد بإمكانية نجاح الفكرة، حتى تضمن انخراط الأسرة كاملة في مشروع حظر المنتجات الصينية من دخول المنزل. لم يكن قرار خوض معركة ضد القوة العظمى الثانية في العالم، بدوافع سياسية، فجدة سارة الكبرى، التي التحقت بأمريكا في سبعينيات القرن الـ19 قادمة من ألمانيا، ابنة صيني يدعى تشانج من امرأة ألمانية، بقدر ما هو رغبة دفينة في تملك أجوبة عن أسئلة: هل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية العيش من دون الصين فعلا، وهل الصين حقا بتلك القوة الاقتصادية الساحقة التي نتصورها، وهل تحتاج إلى الصين بقدر ما هي بحاجة إلى مستهلكين لتنشيط اقتصادها، وألا توجد بدائل أخرى بعيدا عن الصين المصنع الأول للعالم؟
شرعت الأسرة، بدخول العام الجديد، في تنفيذ قرار طرد الصين خارج المنزل، لا لخطأ ارتكبه التنين الذي يسيطر على المكان، "فقد غلفت حياتنا بقشرة مبهجة من اللعب والأدوات والأحذية الرخيصة". وتذهب سارة بعيدا، في اعترافاتها، حين تسقط أي اقتران آخر بالقرار "أحيانا أشعر بالقلق حيال فقدان الوظائف في أمريكا أو التقارير السيئة عن انتهاكات حقوق الإنسان، لكن السعر تغلب على الأخلاق في منزلنا".
أدخل قرار المقاطعة العائلة برمتها في دوامة لا متناهية من الاضطرابات والقلاقل، فرحلة البحث عن بديل لتلافي إدخال السلع الصينية إلى البيت، تتطلب إهدار كثير من الوقت والمال والمكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية، قصد تحقيق النتيجة. على غرار ما حكته سارة عند البحث عن حذاء رياضي غير صيني لابنها ويس، حيث زارت عددا من مراكز التسوق غاصة بالأحذية الصينية بأثمنة زهيدة "تسعة دولارات"، قبل أن تعثر على حذاء إيطالي كلفها 68 دولارا. وقد يكون العائد غير مرض أحيانا، كما حدث مع كيفن عند التقليب عن خطاطيف "لا توجد خطاطيف غير الخطاطيف الصينية.. ليست مشكلة كبيرة. لا أرى أن تناثر الأدوات في الأنحاء لمدة عام آخر سيسبب كثيرا من المشكلات".
وأوقع الأسرة في مأزق مع الأقارب والجيران في المناسبات والأعياد، بتحرجهم عند تقديم الهدايا، ذات الأصل الصيني، ما اضطر سارة إلى إجراء تعديلات على قواعد المقاطعة. فصارت "الهدايا والنفايات والأشياء المستعملة المقدمة من الآخرين الصينية الصنع لا بأس بها". لم تتوقع سارة يوما أن قرارا كهذا ستترتب عليه كل هذه التداعيات، لدرجة اختلاف الآخرين في تلقيه، ما بين الإشادة والتنويه، من إحدى جارتها، "أتمنى لو وجد عدد أكبر من الأشخاص مثلك"، والازدراء والاستغراب، أدى إلى نقد لاذع من صديقتها الأمريكية المقيمة في فرنسا "ستصبحين عارية ومفلسة. إنك تحلمين إذا كنت تعتقدين أن بإمكانك تلبية احتياجاتك اليومية بالأشياء المصنوعة في أمريكا. هذا شيء من الماضي. إن الأساس الكامل للاقتصاد الأمريكي هو أشخاص يشترون حفنة من الأشياء، والصين سهلت ذلك بالنسبة إليهم بجعلها أرخص، فالناس يشترون بنهم كل شيء تصنعه الصين".
وجدت سارة نفسها مضطرة إلى التحايل أمام القرار، حتى لا تظهر في موقع المنهزم أمام التنين الصيني، فاهتدت إلى المراوغة لحظة تعلق ابنها بشراء لعبة صينية المنشأ، "إذا كنت تريد حقا، فسأشتريها ويمكنك أن تدفع لي ثمنها عندما نصل إلى المنزل، من مال عيد الميلاد، وبهذه الطريقة ستكون أنت من اشتريتها، ولست أنا". السناريو ذاته سيتكرر مجددا، لمواجهة تذمر زوجها وابنها حيال حوض السباحة الصيني القابل للنفخ، فطلبت من أخت زوجها إحضاره كهدية عيد الميلاد، على اعتبار أن الهدايا خارجة عن دائرة المقاطعة.
يهِيم القارئ مع طرائف المواقف التي تعج بها هذه المذكرات، حتى ينسى التقاط الرسائل التي تبثها المؤلفة بين السطور، فقرار حظر السلع الصينية مغامرة مثيرة للتفكير والتأمل، في مغامرة أسرة عبر متاهة الحياة الاستهلاكية الأمريكية. وقبل ذلك حلقة دراسية مكثفة عن واقع العولمة. فالكتاب "لا يدور حقا حول الصين، إنما يروي قصة عن الكيفية التي تغير بها العالم، والأهم إلى أين يتجه الاقتصاد العالمي؟".
تقف المؤلفة خلال أيام المقاطعة، الممتدة على مدار عام كامل، على جانب من الأساليب التي تنتجها الصين للاستحواذ على القطاع الصناعي في الولايات المتحدة الأمريكية أو ربما في العالم كله، من قبيل تدني الأجور والتلاعب في سعر العملة والمساعدات الحكومية... وما إلى ذلك، ما "يساعد على تفسير احتلال الصين مكانتها كأكبر منتج في العالم للسلع الاستهلاكية".
قصة شخصية لأسرة بونجورني تصلح نموذجا لفهم واقع الحياة في ظل اقتصاد عالمي واسع ومراوغ مليء بتعقيدات لا نهائية، كتلك التي عاشتها عند رغبتها في شراء مصباح أمريكي، لتكتشف أن عملية التجميع وحدها أمريكية، فيما بقية المكونات صينية الأصل، بذلك أدركت أنه "لم يعد يوجد مصباح أمريكي الصنع، على الأقل بالمعنى الدقيق للكلمة". كما اكتشفت أن بعض شركات صناعة الأحذية الأمريكية الشهيرة لم تعد حقا أمريكية، على الأقل "إذا كنت تبحث عن مكان صنع أحذيتها، وجميعها في معظم الأوقات تقريبا تصنعها في الصين".
باختصار، يأخذنا الكتاب في رحلة، قصد فهم أفضل للكيفية التي تغير بها الصين حياتنا بهدوء. ونسهم نحن في المقابل من موقعنا كمستهلكين بخياراتنا في تشكيل مكانة الصين في العالم.

الأكثر قراءة