رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


شراء لا تصدير .. مفارقات الحرب

يبدو واضحا أن موجة الجفاف التي يمر بها العالم حاليا، إضافة إلى مؤثرات الحرب في أوكرانيا المتعلقة بإنتاج وتصدير الغذاء، ولا سيما الحبوب والأسمدة، غيرت من شكل المشهد العام على الساحة العالمية كلها. ولا شك أن الحرب كان لها الأثر الأكبر، من كل العوامل الأخرى، في تراجع إمدادات الحبوب. فكل من روسيا وأوكرانيا المتحاربتين تصدران ما يصل إلى 40 في المائة من الحبوب والأسمدة إلى العالم، فضلا عن خطوط إنتاج هائلة، في مجال زيوت الطعام المختلفة، التي تمثل الحجر الأساس في النظام الغذائي الطبيعي. ولأن الأمر كذلك، وربما يستمر فترة طويلة، بدأت دولة مثل الهند إعادة النظر في استراتيجيتها الغذائية. وبناء على آفاق التطورات الراهنة غير الواضحة، لا بد من مقاربة تتناسب مع الوضعية الراهنة.
كما أنه قبل أربعة أشهر أعلن ناريندرا مودي رئيس الوزراء الهندي، أن بلاده مستعدة لـ "إطعام العالم". كان ذلك بعد شهرين فقط من نشوب الحرب الروسية - الأوكرانية. لكن اليوم تغير المشهد العام تماما. لماذا؟ لأن الهند مضطرة لشراء الحبوب من الخارج من أجل تعزيز النقص في الاحتياطي الاستراتيجي منها. والنقص في زراعة وصادرات الحبوب، تعزز أكثر في أعقاب دخول هذا الإنتاج ضمن دائرة الحرب في أوكرانيا. فقد تعطلت شحنات الحبوب، ولا سيما القمح لأشهر، وأعلنت دول تعتمد كليا على الإمدادات الأوكرانية تحديدا، حالة الطوارئ، بل فعلت الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها ذات الاختصاص حراكها، ليس لضمان استمرار توريد الحبوب وزيوت الطعام والأسمدة، بل للإفراج عن مئات الآلاف من الأطنان المحتجزة في الموانئ الأوكرانية.
في أيار (مايو) الماضي، قررت الحكومة الهندية حظر تصدير القمح بأنواعه حتى إشعار آخر. وهذا القرار واجه انتقادات حادة على الساحة الدولية، لكن حكومة مودي ترى أن ذلك كان ضروريا لضمان استمرار قوة الأمن الغذائي من جهة المواد الأساسية. لا شك أن هذا القرار، كانت له تبعات سلبية، إلا أن أسعار القمح تحديدا شهدت ارتفاعا في الأسواق المحلية، ما دفع السلطات المختصة إلى وقف التصدير، دون تحديد موعد لإعادته. كل ذلك يدخل ضمن محاولات الحكومة للسيطرة على الوضع، الذي يبدو متفاقما إلى درجة أن ثاني أكبر مصدر للقمح يعدل منهجه ويستعد لاستيراد الحبوب. ويصل إنتاج الهند من القمح تحديدا إلى 108 ملايين طن. ورغم أن التوقعات أشارت إلى أنه بالإمكان ارتفاعه بنهاية العام الجاري إلى 111 مليون طن، إلا أن التطورات الطبيعية وغير الطبيعية على الساحة العالمية، تشير إلى عكس ذلك.
ومن المخاوف التي تنتشر على الساحة المحلية في الهند، بل تتعاظم، توسع نطاق موجة الحر الشديدة الراهنة، وانعكاساتها السلبية على نمو محاصيل القمح. ما يعني تراجع حجم الإنتاج بالطبع. في ظل هذا الوضع، تراجعت بصورة خطيرة أيضا، إمدادات الأسمدة، ما أضاف مزيدا من المشكلات ضمن نطاق الإنتاج الزراعي عموما، في الهند وغيرها من الدول، خصوصا تلك التي تعتمد على الأسمدة المستوردة. لكن المثير حقا، أن المساحات الزراعية في الهند تراجعت حتى قبل هبوب عاصفة موجة الحر والحرب في أوكرانيا، وغيرهما من العوامل. في العام الماضي، تراجع نطاق الأراضي الزراعية المخصصة لإنتاج القمح والحبوب عموما 3.5 في المائة، ما أسهم أيضا في إضافة بعض الضغوط على السلطات المختصة في البلاد.
لكن الهند، وهي ثاني أكبر منتج للقمح في العالم بعد الصين، تستهلك معظم الذي تصدره. وفيما بنت الحكومة مستهدفاتها على التوقعات بإنتاج نحو 111 مليون طن العام المقبل، فوجئت الحكومة بموجة حر عاتية، أضرت بالمحاصيل الزراعية، وتسببت في خفض توقعات الإنتاج إلى 95 مليون طن. لتواجه البلاد ارتفاعا في أسعار القمح بنحو 20 في المائة، في وقت وصل مستوى التضخم إلى 7.79 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ أكثر من ثمانية أعوام، وبدا أن البلد المصدر للقمح، قد يواجه أزمة في ارتفاع أسعاره محليا، وصعوبة في حصول الطبقة الفقيرة عليه بسبب نقصه في الأسواق. وقد تكون هذه النقاط سببا في الاتجاه نحو استيراد هذا المحصول.
كما وضعت موجة الحر حكومة الهند بين المطرقة والسندان، فهي أعلنت للتو مستهدفها لزيادة صادرات القمح لمستويات غير مسبوقة، لكنها أيضا أمام مسؤولية إطعام أكثر من مليار هندي. ولذلك، وبعد أقل من يومين من إعلان مستهدفها لزيادة صادرات القمح، منعت الحكومة الهندية تصدير القمح فورا بهدف التحكم في أسعاره وضمان حصول الطبقة الفقيرة في الهند على القمح بأسعار معقولة. لتنضم بذلك إلى 22 دولة أخرى اتبعت سياسة الحماية الغذائية بمنع بعض صادرات الأغذية لضمان حصول شعوبها على الأغذية.
المشهد العالمي العام ليس براقا، بل قاتما كما يظهر، وينذر بالخوف المبطن بالقلق المستمر. فالهند التي تمتلك نحو 10 في المائة من احتياطيات الحبوب في العالم، نتيجة دعم كبير للمزارعين من قبل الحكومة، تستعد الآن لاستيراد القمح! إنه عنوان يحمل مفارقة كبيرة تثير وتطرح كثيرا من التساؤلات متبوعة بعلامات استفهام عميقة. فيما قد يكون قرار الهند باستيراد القمح مبررا، لكن لربما يكون مدفوعا ومبنيا على أسباب سياسية وأخرى اقتصادية واستراتيجية. فما الصحيح؟ الإجابة الشافية عند حكومة نيودلهي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي