سوق غامضة بلا ضمانات
تعالت الأصوات التحذيرية بقوة وتزايدت خلال الفترة الأخيرة التي تنادي بمخاطر الاستثمار في العملات المشفرة. وأطلق خبراء في القطاع المالي تحذيراتهم للحكومات والمواطنين على السواء بشأن الاستثمار في هذا النوع من العملات. ونبه خبراء متخصصون عقب تزايد رفع قضايا مالية وأخلاقية ضد الاستثمار في العملات المشفرة من خطورة هذا الوضع، وكان هناك 26 شخصية تكنولوجية مؤثرة وجهت تلك الصيحات إلى الكونجرس، ففي رسالة موجهة بما وصفته بالمخاطر الجسيمة المحتملة للعملات المشفرة، حملت عنوان "رسالة لدعم سياسة التكنولوجيا المالية المسؤولة"، طالبت الحكومة الأمريكية بالتحرك السريع لكبح الاستثمار في العملات المشفرة، والجميع بحاجة إلى التحرك الآن لحماية المستثمرين والسوق المالية العالمية من المخاطر الشديدة التي تشكلها الأصول المشفرة. حيث تسببت استثمارات العملات المشفرة في خسائر أكبر من المكاسب للمستثمرين. والتصدي لوقف جنون الاستثمار في العملات الرقمية الذي شهدته الأعوام الماضية، واصفين هذا الوضع بحمم بركان مقبلة لا محالة وستكون كبيرة. وإن حجم السوق يعزز المخاطر، وهم يشيرون إلى الافتقار إلى التنظيم، وهو منتج خال من القيمة المتأصلة أو التدفق النقدي، الذي تعتمد ملاءته على عدد متزايد من اللاعبين الجدد والأسواق التي تتلاعب بها قلة من النخب المالية.
ومن هذا الوضع والمشهد الخطير يبدو واضحا أن المجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي"، لم يعد لمواصلة الصمت بشأن أوضاع العملات المشفرة. فالانتقادات السابقة لهذه العملات من جانب المشرعين الأمريكيين، لم تؤثر في حراكها ضمن النظام المالي العالمي، ولم تخفف من الاندفاع نحوها من جانب المستثمرين الباحثين عن أرباح كبيرة وسريعة في آن معا. والحق، أن أغلبية البنوك المركزية في الأسواق المتقدمة، وجهت تحذيرات متفاوتة من مخاطر العملات المشفرة، التي أصيبت في الأشهر الماضية بسلسلة من الانتكاسات، عبر تقلبات غير مسبوقة. لكن بقيت تحذيرات البنوك ضمن حدود ضيقة أيضا. فهذه المؤسسات المالية المركزية بدأت تفكر عمليا بطرح عملاتها المشفرة، لكن أحدا منها لم يعلن موعدا محددا لمثل هذه الخطوة، بما في ذلك "الفيدرالي الأمريكي".
اليوم تأتي تحذيرات "المركزي" في الولايات المتحدة، على أساس أعمق من جهة حماية المستثمرين، الذين لم يخرجوا من سوق العملات المشفرة، رغم كل الانتكاسات الأخيرة فيها. والتوجه الجديد للمشرعين الأمريكيين أن المخاطر الآتية من العملات الرقمية عموما، تهدد الاستقرار المالي. ولأن الأمر بهذه الدرجة من الخطورة، يعتقد "الفيدرالي" أنه يوجب على البنوك التي ترغب في الانخراط بسوق هذه العملات، أن تنسق معه، من أجل ضبط الحراك، والتأكد من قانونيته. ومن المفارقات أنه لا توجد لوائح عملية من قبل البنوك المركزية كلها، تنظم عمل العملات المشفرة حتى اليوم، ما يعزز الاعتقاد بأن أنشطة ربما غير مشروعة تتم عبرها، فضلا عن عدم وجود ضمانات للمستثمرين في نطاقها.
الفجوات التنظيمية الواسعة، أسهمت في ارتفاع مستوى الانتقادات "للفيدرالي الأمريكي"، كما هو الحال مع بقية البنوك المركزية في الأسواق المتقدمة. فهذه السوق تضم أكثر من أربعة آلاف عملة، بعضها لا قيمة حقيقية لها، لكن بعضها الآخر يستقطب استثمارات بمليارات الدولارات، وأبرزها "بيتكوين"، التي تعرضت لتراجعات مخيفة في الفترة الماضية، ومن المتوقع أن تواصل هذه الانخفاضات، متأثرة عمليا بتراجع الثقة في سوق العملات المشفرة عموما، وإقدام البنوك المركزية الرئيسة على رفع الفائدة من أجل السيطرة على موجة التضخم المحلية والعالمية. ومن مخاطر العملات المشفرة على النظام المالي العالمي، أن نسبة متصاعدة من المستثمرين، ضخت استثمارات فيها، عبر رأسمال آت من بيع أصول ثابتة لها، حتى من خلال قروض مصرفية، أسهمت الفائدة المتدنية سابقا في تشجيعها.
التلاعب بالعملات المشفرة، سيتواصل حتما طالما أن الجهات التنظيمية لا تطرح ما يكفي من قوانين وقيود. فمؤسس عملة "تيرا" وهي الثانية من حيث الأهمية في هذه السوق الغامضة، يعترف بخطئه، بعد أن تبخرت بالفعل أكثر من 40 مليار دولار من أموال المستثمرين من كل الشرائح. لكن المشكلة لا تحل بالاعتراف بالخطأ، بل تتطلب تحقيقات موسعة في كيفية وصول قيمة عملة كـ"تيرا" إلى الصفر تقريبا فجأة.
ومن الواضح، أن غياب التشريعات المطلوبة، شجعت مؤسس "تيرا" نفسه على إطلاق عملة أطلق عليها اسم "تيرا 2". ماذا حدث؟ انخفضت قيمة هذه العملة من 11 إلى دولارين! لا شك أن تدخل "الفيدرالي الأمريكي" حاليا، سيسهم في تشجيع بنوك مركزية أخرى حول العالم، للتعاطي بجدية أكبر مع سوق العملات المشفرة. كما أنه يجب أن يسرع عملية إطلاق عملات رقمية خاصة بهذه البنوك، ما يرفع مستوى الثقة بسوق ليست جديدة، لكنها لم تكن مستقرة يوما.