بناء التنمية بإدارة الرؤية
تظل الأرقام والتقييمات التي تصدر من فترة لأخرى عن مؤسسات دولية مختصة في تقييم مؤشرات نمو اقتصادات الدول، النظرة الثاقبة والفاحصة لتتبع حركة ومسار التقدم الاقتصادي، وخلال الفترة الأخيرة نلاحظ بعين الثقة والنظرة المستقرة، قوة الاقتصاد السعودي من خلال تلك التقارير الرسمية من هذه المنظمات، في وقت يمر فيه الاقتصاد العالمي بفترة نمو حرجة وصعبة، تتوالى تقارير المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية ووكالات التصنيف الائتماني العالمية مقرونة بتوقعات نمو متصاعدة، تعكس قدرة السعودية الاقتصادية ونجاحاتها في انطلاقة ما بعد أزمة الجائحة التي أربكت الاقتصاد العالمي ولا يزال يشهد رحلة تعاف متقطعة. إن أهمية هذه التقارير الدولية تعني كثيرا للسعودية كدولة محورية مؤثرة في مجموعة العشرين ولها دور بارز ومساهمة في استقرار الاقتصاد العالمي بحكم ريادتها النفطية، وما تحققه من مستهدفات رؤيتها 2030 للتنمية المستدامة وبناء الاقتصاد الرقمي وتعزيز تفوقها في التنافسية الدولية.
وعلى هذا الصعيد أصدر صندوق النقد الدولي أخيرا تقريره الذي يمثل رأي الخبراء طبقا للمادة الرابعة من اتفاقية تأسيسه، وهي وثيقة تصدر بشأن آفاق الاقتصاد في كل دولة من الدول الموقعة على اتفاقية الصندوق، فهذا التقرير معياري المحتويات لا يختلف من دولة لأخرى، وذلك لإتاحة الفرصة للمحللين الاقتصاديين والمستثمرين ووكالات التصنيف للاطلاع على الوضع الاقتصادي وآفاقه المستقبلية على المديين القصير والمتوسط، وهذا الوضع يعد جزءا لا يتجزأ من مبادئ الحوكمة الاقتصادية لأي دولة.
والملاحظ أن التقرير وصف الإصلاحات التي تمت في سوق العمل بأنها "مبهرة"، ولا سيما مضاعفة نسب مشاركة المرأة في القوى العاملة، كما أثنى على مبادرة السعودية الخضراء باعتبارها التزامات حكومية طموحة لمواجهة تغير المناخ والخطوات التي حددتها المبادرة في سبيل تحقيق أهدافها، ولا شك أن هذا الرأي يعد مهما من المجلس التنفيذي للصندوق الذي يضع التجربة الإصلاحية الاقتصادية في مقدمة التجارب العالمية، فالزمن الذي تحققت فيه هذه الإصلاحات قياسي مقارنة بكل التجارب العالمية المماثلة، كما أن التحديات التي صاحبت التجربة، ومن بينها انهيار السوق النفطية في 2015، ثم الأزمة الصحية العالمية التي استمرت نحو ثلاثة أعوام، ثم الحرب الروسية - الأوكرانية، وارتفاع أسعار الفائدة العالمية والتضخم، كل هذه التحديات كفيلة أن تؤجل أي خطط إصلاحية أو تعطلها، ولقد كانت تقارير خبراء الصندوق في أعوام سابقة تحذر من هذه التحديات، لكن أثبتت التجربة أن الرؤية مع ما تضمنته من خطط التحول الوطني والتوازن المالي والاستدامة المالية حاليا، وخطط جودة الحياة ومشاريع صندوق الاستثمارات العامة، والخطط البيئية، مع استمرار سياسة محاربة الفساد، كل تلك المشاريع العملاقة، قد آتت ثمارها حتى قبل موعدها المخطط، وتقرير الصندوق الجديد يأتي نتيجة حتمية لهذا العمل الضخم والمخطط له بدقة.
وكانت تقارير الميزانية السعودية الربعية كفيلة بأن ترسم ملامح الوضع الاقتصادي الحالي، وأشارت "المالية" في آخر تقرير إلى أن جميع آفاق النمو الاقتصادي قد تصل إلى أكثر من 7 في المائة هذا العام، كما جاءت التقارير مؤكدة متانة الوضع الاقتصادي وتجاوز الأزمة الصحية وآثارها، مع بلوغ الفائض المالي مستوى قياسيا لم تشهده المملكة منذ 2011، وكانت وزارة المالية شفافة وذات مصداقية عالية، لذلك لم يكن هناك اختلاف بين ما أعلنته وبين تقرير صندوق النقد، فالمملكة وفقا للتقرير الدولي تشهد حاليا انتعاشا قويا يجعلها من بين دول قليلة لا تعاني حالة الركود التي تعم معظم دول العالم اليوم جراء الجائحة أحيانا، أو الحرب والتضخم وضعف سلاسل الإمداد أحيانا أخر، والحالة السعودية الفريدة ليست مفاجئة، بل انعكاسا للقرارات الحكيمة التي سبقت الجائحة، من أهمها إطلاق برامج الرؤية خاصة برنامج التوازن المالي بكل ما تضمنه من تنويع لإيرادات الدولة وفرض أنواع جديدة من الضرائب، مع ضبط الإنفاق، وإصلاح آليات الدعم وأسعار الطاقة، ورغم أن الجائحة قد تسببت في ارتباك هائل في السوق النفطية والأسعار التي تهاوت فجأة، إلا أن السعودية تمكنت من التوازن المبكر، بل تقديم الدعم للاقتصاد، كما أكد تقرير صندوق النقد ذلك عندما أشار إلى أن قوة الإصلاحات المنفذة في إطار جدول أعمال الإصلاحات الهيكلية ضمن رؤية السعودية 2030 قد أسهمت في الخروج المبكر من الأزمة الصحية والعودة السريعة إلى النمو الاقتصادي، الذي قفز من مستوى -4.1 في المائة في 2020 إلى أن حقق 3.2 في المائة 2021، وسيتجاوز مستوى 7.6 في المائة لهذا العام ويستمر في النمو 3.7 للعام المقبل، كما نما الناتج المحلي غير النفطي من -2.5 في المائة في 2020 ليحقق مستوى 4.2 للعام الحالي ويستمر في النمو عند مستوى 3.8 للعام المقبل، وقد أسهمت أسعار النفط وزيادة إنتاجه في تحسن الحساب الجاري بمقدار 8.5 نقطة مئوية في 2021. وهذا النمو القوي والقياسي الذي وضع المملكة في أعلى سلم الترتيب العالمي في معدلات النمو يضع الأسئلة المقلقة بشأن التضخم، خاصة أن العالم يعاني ويلات التضخم نظرا إلى ارتفاع سعر الدولار مصحوبا بقوة الطلب العالمي، ومع ذلك فإن المملكة تنعم بمستوى مقبول من التضخم، وفقا لرأي الصندوق الذي أكد أنه تحت السيطرة، حيث بلغ 3.1 في المائة في 2021، ويتوقع تراجعه إلى 2.8 في المائة في 2022.
ويشهد التقرير الدولي أن المملكة قد استفادت من هذه الحالة الاقتصادية والانتعاش من حيث تراجع معدل البطالة الكلي من 7.4 في المائة إلى معدل 6 في المائة لهذا العام، كما تراجعت بين المواطنين من 12.6 في المائة في 2020 إلى 10.1 لهذا العام، وهذا النمو في القوى العاملة وجد تأثيره في النظام المصرفي الذي نمت فيه الودائع، كما أنه يتمتع بمستويات جيدة من السيولة والربحية خاصة مع تعافي هوامش الفائدة الصافية، وبينما ارتفع الائتمان المقدم إلى القطاع الخاص فلم تسجل المخصصات في مقابل هذه القروض أي ارتفاع على الإطلاق، حتى بعد انتهاء برنامج تأجيل مدفوعات القروض الذي تم تنفيذه لمواجهة تداعيات الأزمة الصحية. ويرى الصندوق أن الإصلاحات التي تمت في إطار رؤية 2030 والالتزام الصارم بالبرامج المخططة هو ما يجعل آفاق الاقتصاد السعودي إيجابية، ويواصل النمو غير النفطي ارتفاعه بمقدار ثلاث نقاط مئوية إضافية "ليتجاوز 8 في المائة على المدى المتوسط"، ويتفق رأي الصندوق مع سياسة المملكة النقدية فلا يزال ربط سعر الصرف بالدولار هو النظام الأنسب في ظل هيكلها الاقتصادي الحالي.
وأخيرا: تأتي هذه المبشرات والتأكيدات مع استمرار التقدم في تنفيذ برامج ومشاريع الرؤية التنموية في جميع الجوانب، خاصة الاقتصادي منها، والمشاريع الذكية، والنجاح في تنفيذ عديد من المبادرات المعززة للاستثمار وتعزيز الاستدامة المالية.