خلافة المرشد الإيراني .. معركة من أجل التوريث
أنهى إبراهيم رئيسي مطلع الشهر الجاري عامه الأول في رئاسة إيران، بحصيلة متواضعة على الصعيدين الداخلي والخارجي، رافقتها موجهة عارمة من الغضب والانتقاد، ما انفك ينقلب، بين الفينة والأخرى، إلى مظاهرات قطاعية واحتجاجات مناطقية. وبلغ الامتعاض من حكومة رئيسي درجة خروج شخصيات محافظة، محسوبة على المؤسسة السياسية، للهجوم على الرجل الذي لا يفهم، بحسب المنتقدين، أساسيات الاقتصاد، ولا يتقن أدبيات تدبير الخلاف بين المؤسسات، بعد تزايد التوتر بين رئاسة الحكومة ورئيس مجلس النواب.
أدرك الإيرانيون، بعد مضي عام واحد من عمر الحكومة، أن وعود وتطلعات المحافظ المتشدد خلال الحملة الانتخابية ذهبت أدراج الرياح. فخطاب رئيسي كان متفائلا جدا حينها، ورفع السقف عاليا، بشكل لا يتناسب مع الواقع الكئيب الذي تشهده البلاد. كما أظهر توالي الأيام في الحكم مدى تواضع الأداء السياسي للرجل، مقارنة برؤساء سابقين، إذ بدا شبه منعزل عن القضايا المهمة التي شغلت أسلافه.
تفيد توقعات صندوق النقد الدولي ألا يتعدى معدل نمو الناتج الإجمالي المحلي 3 في المائة، برسم 2022. سياسيا، تعيش الحكومة على وقع الارتباك، بعد تهديد عدد من الوزراء "الصناعة والاقتصاد والمالية..." بالعزل البرلماني، ما دفع حجة الله عبد الملكي، وزير العمل والرعاية الاجتماعية إلى الاستقالة في حزيران (يونيو) الماضي، ما يجعل "الحكومة القوية" التي تحدث عنها رئيسي زمن الانتخابات أضغاث أحلام فقط.
خارجيا، لم يقم الرئيس الذي أبدى تأييده لإحياء الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية، بأي مساع تذكر من أجل إنقاذ الإيرانيين من ويلات العقوبات. بل على النقيض من ذلك، مال منذ توليه منصب الرئاسة إلى تأييد زيادة مستوى تخصيب اليورانيوم، وقل اهتمامه بموضوع العقوبات، فلم يعر زيارة المسؤولين الغربيين إلى إيران كبير عناية، إذ أسند استقبال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال زيارته إلى طهران إلى نائبه الأول ووزير الخارجية. كما فوض لقاء مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إلى علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.
ضعف الأداء وتواضع الحصيلة، رغم الدعم المطلق من جانب المرشد، دفعا بكثيرين إلى التشكيك في حظوظ إبراهيم رئيسي لخلافة المرشد. فقد توقع مراقبون أن تكون الرئاسة محطة عبور نحو منصب المرشد، بحكم سيرته في ترقي المناصب. فالرجل ضمن أقلية نادرة في الجمهورية التي تولت فرعين من أجهزة السلطة "القضاء ثم الحكومة" في مساره المهني. فضلا عن أن سيرته في الترقي، تشبه مسار المرشد علي خامنئي من رئاسة الجمهورية "1981-1989" إلى المرشد الأعلى للثورة، منذ 1989.
يتنازع حظوظ الرجل في خلافة المرشد، على ضوء حصاد العام الأول من الحكومة، قراءتان على طرفي نقيض، تذهب الأولى إلى أن الهدوء والانعزال والمهادنة أساليب في خطة الرجل نحو بلوغ منصب المرشد. فرضا المرشد الحالي أولا، ثم البحث عن حلفاء ومناصرين داخل الدوائر العليا للنظام الغاية الكبرى لرئيسي. ما يجعل البرنامج الانتخابي والمنجزات الحكومة والاتفاق النووي... مجرد وسائل تتساقط في طريق الهدف الأكبر، مادامت إشارة خامنئي قائمة، "إن رئيس الجمهورية الإيرانية وحكومتها مجتهدان في عملها حقا".
أراحت واقعة اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني رئيسي كثيرا، حيث بات الطريق معبدا أمامه نحو الخلافة أكثر من أي وقت مضى. فقد نجح اللواء في تحويل مؤسسة الحرس الثوري، رغم أنه لم يكن رئيسها، إلى قوة كبيرة، متغلغلة في مشاريع اقتصادية عملاقة وشبكة علاقات مالية دولية، بقيادات وازنة، بعضها من رجال الدين وبعضها عسكرية وآخر ميلشياوية، من شأنها أن تحسم في تحديد خليفة المرشد.
بدت نتائج غياب سليماني في الصراعات التي وقعت أخيرا في الدوائر العليا من الأجهزة الأمنية، فالتقارير تفيد بأن وزير الاستخبارات الذي اختاره رئيسي هو من دفع باتجاه إزاحة حسين طائب من رئاسة استخبارات الحرس الثوري الإيراني، بعد 12 عاما في المنصب، لأن الرجل معروف بولائه الشديد لابن مرشد الجمهورية المنافس الأكبر لإبراهيم رئيسي.
تعد القراءة الثانية للواقع أن الدخول إلى رئاسة الحكومة صار مقبرة إلى كل الحالمين بمنصب المرشد الأعلى للثورة في إيران، فعلى مدار ثلاثة عقود التي أمضاها علي خامنئي في منصب المرشد الأعلى، لم يغادر رئيس الحكومة بلا مشكلات أو اتهامات. وإن بدأت الأمور بشكل مبكرا نسبيا مع الحكومة الحالية.
بناء عليه، يكون دور إبراهيم رئيسي؛ بحسب هؤلاء، مجرد تكرار لسيناريو الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني مع المرشد الحالي. فالرجل الذي يلقب بصاحب الإمام، بمعية إسفنديار رحيم مشائي في إشارة إلى علاقتهما المتميزة بآية الله الخميني، مهد طريق خامنئي نحو المنصب أواخر عقد الثمانيات، قبل أن ينقلب عليه خامنئي، وهذا ليس بالأمر الغريب في التاريخ السياسي المعاصر لإيران.
هكذا إذن ينظر المرشد إلى رئاسة رئيسي من زاوية وظيفية، تتمثل أساسا في كون الرجل موثوقا فيه لضمان انتقال السلطة، وتمهيد الطريق أما النجل الثاني للمرشد، مجتبى خامنئي ذو 53 عاما، فهو متوافق مع النظام السياسي في طهران، وصاحب علاقات قوية مع مراكز نفوذ داخل الحرس الثوري، لتولي منصب المرشد الأعلى للثورة في إيران.
يبدو هذا السيناريو أقرب إلى التحقق في الداخل الإيراني، ما أعاد مير حسين موسوى، مرشح الانتخابات الرئاسية في 2009، الموضوع تحت الإقامة الجبرية بسبب احتجاجات الحركة الخضراء التي أعقبت فوز أحمدي نجاد، إلى الواجهة برسالة شديدة اللهجة وتضمنت نقدا للداخل والخارج، أقرب ما تكون إلى نصيحة من آخر الإصلاحيين. كان أبرز ما جاء فيها التحذير من وراثة مجتبى خامنئي منصب المرشد الأعلى للثورة في إيران "منذ 13 عاما هناك أخبار عن مؤامرة أنه بعد موت القيادة سيمسك ابنه زعامة شيعة العالم... فإذا كان مثل هذا الخبر غير صحيح، لماذا لم يكذب بعد؟".
صرخة أخرى من رعيل عاش حلم الثورة، مير حسين موسوي كان آخر رئيس وزراء قبل إلغاء المنصب "1981-1989"، في وجه التوريث الذي قامت الجمهورية بالكامل على رفضه، ما حدا بها إلى التخلص من نظام الشاه، فعاد لينتج نفسه دينيا وسياسيا في نظام جمهوري. توريث مقبل لا محالة، ما لم تحدث مفاجأة، وتخرج المنافسة عن ثنائية: مجتبى خامنئي وإبراهيم رئيسي، فالمرشحان معا أبناء المرشد الأعلى، الأول ابن بيولوجي والثاني غير بيولوجي، ما يعني استمرارية المرشد حتى بعد وفاته.