رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


البترول .. توازن الخطاب والاستثمار

لن تتحرك عجلة النمو الاقتصادي بأي حال بشكل كبير ولا يستطيع الإنسان بناء حضاراته ومتطلباته الحديثة إلا مع الاستخدام التجاري للبترول، فقد أثبت البترول من التجارب السابقة أنه يعد المصدر الأرخص للطاقة حاليا بكل المعايير التي يصفها ويتحدث عنها الخبراء في هذا القطاع الحيوي المهم، وأيضا المصدر الأكثر وفرة والأميز سهولة، ومن النتائج المهمة للدور الاقتصادي النشط الذي يلعبه البترول، تحريك عجلة الإنتاج في العالم أجمع من خلال تطوير الآلات التي تعمل بالوقود الأحفوري، لهذا الأمر فإن العلاقة بين النمو الاقتصادي وأسعار البترول علاقة أثبتتها الأبحاث الاقتصادية على مدى القرن الماضي، ولم يعد هناك شك في تأثير أسعار البترول في النمو الاقتصادي العالمي، وأيضا تأثير النمو في الطلب على الطاقة، فإذا عانى الاقتصاد العالمي ركودا كان الأثر سلبيا في الطلب على الطاقة، وبالتالي تراجعت أسعار البترول عند مستويات معينة.
والحقيقة الواضحة أنه كلما تسارع زخم النمو الاقتصادي، فإن أسعار البترول تعود إلى التوازن، وإذا حدث اختلال في جانب الطلب أو العرض، فإن الأسعار تعكس هذا الخلل بسرعة وتنقله إلى عجلة الإنتاج العالمي، وبالتالي ينتقل مباشرة إلى مؤشرات النمو والأجور وأسعار الأصول، والأسواق المالية. والملاحظ أن التراجع أو الارتفاع في أسعار البترول بشكل مفاجئ يسمى الصدمة الاقتصادية، نظرا إلى أن هذا التأثير السريع له علاقات بين العوامل المختلفة.
ومع محاولات بعض الدول إيجاد بدائل للوقود الأحفوري، ومع التطور المذهل لهذه المنتجات، إلا أنها لم تستطع حتى الآن إثبات قدرتها بديلا للبترول، لذلك فإن أي خطوات لخفض الاستثمارات في البترول قد تقود العالم إلى مشكلات جمة، نظرا إلى تعرض المعروض من البترول للتراجع بصورة تصعب معالجتها في الوقت المناسب.
ومن هذا المشهد، فإن القواعد الآن للطاقة البديلة تعد مهمة، لكنها غير قادرة حاليا على زحزحة البترول عن عرشه ومكانته الاقتصادية، وإن تراجع الاستثمارات في البترول يعني خللا اقتصاديا قد يتسبب في ضعف الإنفاق على الطاقة البديلة، وبالتالي العودة إلى المربع الأول، لكن عبر صدمات اقتصادية واجتماعية خطيرة. والحل هو ما أكدته الرياض من خلال ما جاء من مضامين في مجلس الوزراء السعودي خلال جلسته الأخيرة برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز باعتبار أن استقرار السوق البترولية وتوازنها ركيزة أساسية في دعم نمو الاقتصاد العالمي، وهذا الخطاب يحمل العالم أجمع مسؤولية كبيرة تجاه الاقتصاد العالمي، فالتسرع في خفض الاستثمارات تحت ذرائع عدة، سيقود إلى تضخم الأسعار بشكل ضار، وهو ما أكده أيضا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أكثر من مناسبة.
فالمملكة بحكم أنها جزء من هذا العالم، تتضرر بالتغيرات المناخية، فهي حريصة كل الحرص على الوصول إلى الحياد الصفري قبل غيرها، لكنها في الوقت نفسه تلتزم للعالم بوصول تدفقات كافية من البترول للأسواق العالمية للحفاظ على النمو الاقتصادي عند مستويات مقبولة، لكن في المقابل هناك توجهات إلى خفض الاستثمارات في هذا القطاع من جانب دول أخرى، ما يعقد عمل الحلول الراهنة، والملاحظ أن التراجع في الاستثمارات ليس في جانب الإنتاج فقط، بل في جميع سلسلة القيمة، فالإنتاج يحتاج إلى نقل وإلى مصاف وتكرير، فاستمرار الاستثمارات في هذه القطاعات وتطويرها هو جزء من الصناعة، فزيادة الإنتاج من الدول المصدرة للبترول ليس حلا سحريا اليوم وكافيا لخفض الأسعار.
بهذا انتهى الاجتماع الوزاري الـ 31 للدول الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" والدول المنتجة من خارجها "أوبك +"، الذي أكد فيه المجتمعون أن الانخفاض الشديد في الطاقات الإنتاجية الفائضة يستدعي استغلال هذه الطاقات بحذر شديد عند الاستجابة للاضطرابات الشديدة في الإمدادات.
كما أن النقص الحاد في الاستثمارات في صناعة البترول قد قلل وحد من توافر الطاقات الإنتاجية الفائضة في جميع مراحل سلسلة القيمة في هذه الصناعة "التنقيب والإنتاج، والمعالجة والنقل، والتكرير والتوزيع". كما انتهى المجتمعون إلى قرار بتعديل مستوى الإنتاج للدول الأعضاء في منظمة "أوبك" والدول المنتجة من خارجها، بزيادته بمقدار "100 ألف برميل" في اليوم لسبتمبر 2022، وهو ما رحبت به الرياض وأكدت أهميته القصوى للالتزام التام بحصص الإنتاج المحددة.
لكن رغم هذا القرار، فإن على العالم أن يدرك أن الطاقة الإنتاجية اليوم لها حدود أيضا، وأشار ولي العهد إلى ذلك خلال اجتماعات القمة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن في جدة، فالمملكة لن تستطيع تجاوز 13 مليون برميل يوميا، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه رغم رفع سقف الإنتاج لدعم العرض، فإن الأسعار قد لا تتراجع بصورة آنية، ويتطلب تراجعها بعض الوقت، وهذا يقدم للعالم أجمع درسا مهما في العلاقات التوازنية الكلية للاقتصاد العالمي، ومن ذلك التوازن في الاستثمارات بين قطاعات الطاقة، والتوازن في الخطاب وعدم التسرع بشأن قدرات الطاقة البديلة، فالطلب على البترول سيبقى ركيزة للاقتصاد العالمي لفترة لن تكون قصيرة على كل حال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي