وثيقة الناتو .. روسيا والصين إلى العداوة بعد الصداقة

وثيقة الناتو .. روسيا والصين إلى العداوة بعد الصداقة

حددت قمة مدريد التي عقدت أخيرا، المفهوم العام لوثيقة حلف شمال الأطلسي "الناتو" للأعوام العشرة المقبلة، التي تضمنت الأولويات والمهام الأساسية، وكذلك المقاربات، من خلال معالجة المهام السياسية والعسكرية، التي سينفذها الناتو في ظل انعكاسات الأزمة الأوكرانية، التي ألقت بظلالها على مستجدات القمة، بهدف إدارة وتوجيه قدرات التحالف للتعامل مع التحديات الأمنية القائمة والجديدة بشكل جماعي ومؤسسي، ضمن سياسة جديدة قادرة على إنتاج ترتيبات أمنية وتحركات عسكرية وسياسية مختلفة، يتم تنسيقها بين دول الحلف، لتنفيذ مهامه الدفاعية وإدارة الأزمات الدولية، لضمان الأمن الجماعي للدول الـ30 الأعضاء، بمواجهة جميع التهديدات أيا كان مصدرها، بصفة الحلف تحالفا دفاعيا وتحقيق غايته الأساسية بالدفاع.
نصت الوثيقة الأساسية للحلف على تحديث المفهوم الاستراتيجي بانتظام، وتحديدا اعتماد وضع خطة للمفهوم الاستراتيجي خلال كل عقد من الزمان، إذ كانت أولى هذه التحديثات عقب انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، التي مهدت منذ ذلك الحين إلى مجاراة التغييرات في بيئة الأمن العالمي، لبرهنة استعداد الحلف على القدرة على التعامل مع أي طارئ، في أي بقعة جغرافية محسوبة على الحلف وأي زمان، حيث صدر آخر تحديث للمفهوم في قمة لشبونة للناتو في 2010، وكان المفهوم العام قائما على محاربة الإرهاب كركيزة أساسية بين الدول الأعضاء، لكن ونتيجة للتغيرات الكبيرة وازدياد الفجوة الغربية الشرقية بدخول القوات الروسية للأرضي الأوكرانية، التي كان مكتوبا لها أن تكون عضوا في يوم من الأيام، اضطرت الدول الأعضاء لصياغة مفهومها الاستراتيجي بشكل مختلف، بعد أن فرضت الأزمات العالمية الصحية منها والاقتصادية، التي كان أشهرها فيروس كوفيد - 19، سببا في تأخير هذه القمة عامين، بعد أن كان مقررا عقدها في 2020.
أحد أهم أسباب تأخير القمة كذلك فوضى سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب، الذي غاب عنه وجود إطار أيديولوجي ينزع إليه أو يلتزم به، من خلال تبنيه مبدأ "أمريكا أولا"، الذي أدى إلى قصور وسلبيات في الالتزامات الأمريكية تجاه الحلف، ما أدى إلى إحراج الدول الأعضاء، التي أدت فيما بعد بمطالبة بعض الساسة الأوروبيين بضرورة الاستقلال الدفاعي عن واشنطن، فيما كان يعتمد ترمب سياسة الـ"لا مجانية" مع الحلفاء، من خلال سياسة خارجية قومية كان يراها أكثر إنصافا للمصالح الأمريكية المادية، التي تجاهلتها الإدارات السابقة، إضافة إلى رفضه إنفاق واشنطن على تكلفة وجود قواعد عسكرية لحماية بعض الدول كما الحال مع كوريا الجنوبية واليابان.
ركزت النظرة الجديدة للحلف على روسيا والصين، من خلال اعتبار موسكو تهديدا كبيرا بعد أن كانت مصنفة تحت بند "دولة صديقة"، فيما اختلفت النظرة للـ"شريك الودي التصنيعي" الصين لتصبح "تحديا لأمن الحلف ومصالحه وقيمه"، لكن وعلى الرغم من هذه النظرة، التي عدتها موسكو وبكين "عدائية"، أبقت وثيقة المفهوم الاستراتيجي على قنوات مفتوحة مع أصدقاء الأمس وأعداء اليوم، بتأكيدها أن الحلف لا يسعى إلى المواجهة مع موسكو وإنما إلى الحوار، بهدف تخفيف المخاطر ومنع التصعيد المستقبلي، فيما عد مراقبون أن هذه الوثيقة -تصعيدية مع الصين التي لا تأتي ضمن مهام الحلف الجغرافية-، لكن تبريرات قمة مدريد أكدت أن طموحات الصين المعلنة وسياساتها القسرية تحد أمني مباشر للدول الأعضاء في الحلف.
كما اتهمت الوثيقة الصين بالسعي إلى تقويض النظام الدولي القائم على القواعد، إضافة إلى ادعاء الوثيقة بأن الصين تضر بأمن الحلف، من خلال استهدافها الحلفاء بالعمليات الهجينة والسيبرانية "الخبيثة"، وخطابها التصادمي، وتضليلها المعلوماتي، وأن دول الحلف ترفض السعي الصيني للتحكم في القطاعات التكنولوجية والصناعية الرئيسة، والبنية التحتية الحيوية، والمواد الاستراتيجية، وسلاسل التوريد، وعلى الرغم من الاستنكار الصيني لمضمون الوثيقة، لم تفوت بكين فرصة اتهام واشنطن بفرض هواجسها على الحلف، إضافة إلى اتهام الإدارة الأمريكية بمحاولة تعزيز نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، رغما على المقاربات والآراء المتباينة في التعامل المستقبلي بين فرنسا وألمانيا من جهة والصين من جهة أخرى.
أولويات الوثيقة الجديدة سجلت تراجعا في أهمية الإرهاب على عكس الوثيقة السابقة في 2010، التي كان الإرهاب فيها يمثل الخطر الأكبر للحلف أما الوثيقة الحالية فاكتفت بالإشارة إلى الإرهاب في نقطتين، الأولى حينما أكدت أن "الإرهاب، بجميع أشكاله ومظاهره، هو أخطر تهديد مباشر غير متكافئ لأمن مواطنينا وللسلام والازدهار الدوليين"، والنقطة الثانية ركزت على دور الناتو في مكافحة الإرهاب على أساس "مجموعة من تدابير المنع والحماية والرفض"، فضلا عن تعزيز التعاون مع المجتمع الدولي، لمعالجة الظروف المؤدية إلى انتشار الإرهاب.
كما سلطت الوثيقة الضوء على التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تثيرها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والساحل على أمن الناتو باعتبارها الجناح الجنوبي للحلف، خصوصا ما يتعلق بتفاقم تهديدات الأمن الغذائي والتغير المناخي وضعف المؤسسات بما يوفر أرضا خصبة لانتشار التنظيمات الإرهابية، وما يتبع ذلك من عدم استقرار وزيادة عمليات الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر.
فصلت الوثيقة أولويات الناتو بثلاث مهام رئيسة بعد أن نصت على خطوطها العريضة، التي أكدت بكل وضوح أن المنطقة الأوروبية-الأطلسية لم تعد في سلام، حيث إن تطوير قدرات وآليات الدفاع والردع أول هذه المهام، فيما كانت المهمة الثانية منع الأزمات وإدارتها، أما المهمة الثالثة على سلم المهام كانت تحقيق الأمن التعاوني، كما أن أبرز مهام الحلف بحسب الوثيقة مهمة الدفاع والردع، التي تعد العمود الفقري، للدفاع عن الدول الأعضاء في الحلف بعضها عن بعض، فيما ركزت الوثيقة على معالجة الأزمات بالعمل على منع وقوعها، والاستجابة لها عندما يكون من المحتمل أن تؤثر في أمن الحلفاء، كما أعاد الناتو التأكيد، من خلال الوثيقة على سياسة الباب المفتوح، مشددا على أن قرارات العضوية تتخذ بوساطة الدول الأعضاء، من خلال دعم استقلال وسيادة الدول الإقليمية، الراغبة في الانضمام أو الشراكة، بتعزيز قدرتها على الصمود في وجه أي تدخلات كما حصل في الأزمة الأوكرانية، بتوفير الدعم بالمال والسلاح ضد القوات الروسية.

الأكثر قراءة