ذروة أم هدوء موجة؟
مع احتدام استنزافات الحرب في أوكرانيا وما تسببه من معاناة تعجز عن وصفها الكلمات، يشعر الجميع بآثارها خارج حدود ذلك البلد.
وهي تلحق الضرر بعالم كان في طريقه للخروج من جائحة كان لها أشد الأثر في الدول النامية، وتمثل أحد أشد هذه الآثار في أزمة أسعار الغذاء، ما يثير التساؤل بشأن توفير المواد الغذائية الأساسية بتكلفة ميسورة.
ومع نهاية تموز (يوليو) واقتراب فصل الصيف من ذروته، بدأ العالم يستعيد بعض أنفاسه من موجة القلق العارمة خوفا من الجوع والتضخم وتوسع رقعة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فمع اندلاع الحرب قررت السلطات الأوكرانية وقف تصدير القمح والشوفان والدخن والحنطة السوداء، وتبعها في ذلك كل من إندونيسيا التي أوقفت تصدير زيت النخيل، وزيت عباد الشمس، وكذلك قررت الهند وقف تصدير القمح، والجميع يرفع شعار "إدارة الأمن الغذائي الداخلي كضمان لعدم ارتفاع الأسعار"، لكن هذا الوضع أطلق مارد التضخم من عقاله في باقي العالم، ولم تعد الدول الأكثر فقرا قادرة على الوصول إلى كفايتها من الإمدادات الغذائية، لكن قبل أيام نجحت الأمم المتحدة في تنفيذ صفقة حبوب توسطت فيها بين كييف وموسكو كي تغادر هذه الشحنات موانئ أوكرانيا عن طريق البحر الأسود، ومع قدرة روسيا أيضا على تحقيق حصاد وفير، ما منح أسعار السلع الغذائية فرصة للتراجع، ومعها تراجع القلق العالمي من شبح المجاعة.
ولا شك أن هذا الوضع مبشر، والمجتمعات بحاجة إلى تهدئة من هذا النوع، لأن القلق على الغذاء يولد طلبا غير منطقي وسعيا من المجتمعات لكنز الأغذية فوق الاحتياجات المعتادة، ما يؤدي أيضا إلى زيادة الوقود تحت نار الأسعار، ذلك أن المشكلة لم تعد تكمن في الإنتاج العالمي، بل في مشكلة سلاسل التوريد، وفي العادة تفوز المجتمعات القادرة على الدفع وتبقى المجتمعات الأكثر فقرا عرضة لمخاطر نقص الغذاء، وهذا يعطي مؤشرا على أن انخفاض الأسعار قد لا يعني أن أزمة الغذاء قد انتهت، فتقارير المراقبين تشير إلى أن العوامل الأساسية التي دفعت الأسواق إلى الارتفاع لم تتغير بعد، فالحرب لا تزال مستمرة، والجفاف لم يزل قائما في مناطق من العالم، وضعف سلاسل التوريد لا يزال مشكلة عالمية لن تحل قريبا، مع ما تركته الجائحة على اقتصاد الدول الأكثر فقرا التي تراكمت عليها الديون، مع مستقبل غامض في ظل سياسات التشديد النقدي، ورفع أسعار الفائدة في العالم، وشح في العملات الأجنبية.
نعم لقد هدأت نار الأسعار العالمية، لكنها لم تزل تشتعل، والعالم لا يزال يواجه الفقر بجهود أقل مما سبق.
ويقول خبراء منظمة الفاو، "إنه نظرا إلى الارتفاع الحاد في أسعار المدخلات، والشواغل المتعلقة بأحوال الطقس، وزيادة أوجه انعدام اليقين في الأسواق الناشئة عن الحرب في أوكرانيا، يشير أحدث توقعات المنظمة إلى احتمال انحسار أسواق الأغذية وتسجيل الفواتير العالمية للواردات الغذائية مستوى قياسيا جديدا".
وطبقا لمؤشرات تقرير برنامج الغذاء العالمي الصادر حديثا، تبين أن نحو 828 مليون شخص يعانون الجوع في 2021، وذلك بزيادة قدرها 46 مليون شخص مقارنة بالعام الماضي وبزيادة 150 مليون شخص مقارنة بـ2019، وهذه الأرقام جاءت نتيجة مباشرة لعوامل خارج سياق الحرب، وهي تتعلق بقضايا الجفاف، وكذلك الآثار الاقتصادية التي تسبب فيها انتشار فيروس كورونا، ومن بينها توقف العمل في مصانع وحقول كثيرة حول العالم، وصعوبة حركة العمال ووصولهم إلى مناطق العمل، خاصة بين الدول، وصعوبات سلاسل التوريد وارتفاع أسعار الشحن العالمية، وهذه القضايا لن تحل بمجرد نهاية الحرب أو التوسط بمرور شحنة من الحبوب.
كما لاحظت التقارير الدولية أن نسبة الأشخاص الذين يعانون الجوع في 2020 ارتفعت بعدما بقيت ثابتة نسبيا منذ 2015، وواصلت ارتفاعها في 2021 لتبلغ 9.8 في المائة من سكان العالم، وذلك مقارنة بـ8 في المائة في 2019 و9.3 في المائة في 2020.
وهذه النسب أعلى بكثير من نسب النمو الاقتصادي العالمي، كما أنها تضيف سنويا أعدادا هائلة من الناس إلى الجوع، فعدد الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي المعتدل أو الشديد في 2021 يصل اليوم إلى 2.3 مليار شخص في العالم، أي ما نسبته 29.3 في المائة وبزيادة قدرها 350 مليون شخص مقارنة بما قبل تفشي جائحة كوفيد - 19.
إن هذه الأرقام تؤكد حقيقة أن الجوع وانعدام الأمن الغذائي لم يزالا ظاهرة عالمية، وأن الحرب في أوكرانيا زادت من تأثيراتهما فقط، ولم تكن سوى عامل، وقد لا يكون هذه العامل جوهريا، فحتى لو انتهت الحرب، فإن مشكلة الأمن الغذائي العالمي ستظل قائمة، إذ تشير توقعات تقرير برنامج الأغذية العالمي إلى أن نحو 670 مليون شخص سيظلون يعانون الجوع في 2030 حتى لو حصل انتعاش اقتصادي عالمي.
ولا شك أن للحرب آثارها السيئة في العالم، فقد قالت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية وبناء السلام، خلال حديثها في جلسة لمجلس الأمن الدولي، الجمعة، إن تأثير الحرب في الصعيد العالمي "واضح بشكل صارخ"، مشيرة إلى أنه رغم التطورات المشجعة في مجال الحبوب والأسمدة، فإن فرص إنهاء الحرب لم تزل ضئيلة، ونعلم أن أوكرانيا وروسيا معا من أكبر الدول المنتجة للحبوب الأساسية والبذور الزيتية والأسمدة في العالم، واستمرار الحرب يعني استمرار الاختلالات في سلاسل الإمداد الدولية وأن شبح ارتفاع أسعار الحبوب والأسمدة والطاقة والأغذية العلاجية سيظل قائما، لكن مع وجود اختلالات عميقة دائمة في توفير الغذاء العالمي ومعالجة الجوع والفقر، سيكون دخول العالم في أي صراع جديد كارثة تؤدي إلى انفلات الأسعار من عقالها مجددا، وقد يترتب على ذلك تداعيات شديدة الخطورة على الأمن الغذائي والتغذية في العالم.
إن الفاتورة العالمية للواردات الغذائية سجلت أرقاما قياسية جديدة هذا العام، بيد أن القسم الأكبر من هذه الزيادة المتوقعة يعزى إلى ارتفاع الأسعار وتكاليف النقل، أكثر من حجم الواردات نفسها، وفقا لتقرير جديد أصدرته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "الفاو" أخيرا.
إن عديدا من الدول الضعيفة تتكبد تكلفة أكبر، لكنها تحصل على كميات أقل من الأغذية، وهو أمر مقلق. وسيجد المستوردون صعوبة في تمويل ارتفاع التكاليف الدولية، ما قد يؤدي إلى تراجع قدرتهم على الصمود أمام ارتفاع الأسعار. أخيرا، إن مجرد التهديد بالحرب أو التلويح بالحل العسكري كاف لشحذ هموم المجتمعات القلقة، لذا فإن المشكلة كما يصفها تقرير برنامج الغذاء العالمي تكمن في قدرتنا على اتخاذ إجراءات أكثر جرأة لبناء القدرة على الصمود في وجه الصدمات المستقبلية.