الاقتصادات الناشئة وتكلفة الدولار

لا يبدو أن هناك حدودا واضحة بعد لمسار ارتفاع الدولار، فحتى قبل أن يستبدل المشرعون الأمريكيون سياستهم التقليدية بالإبقاء على مستوى شبه صفري للفائدة، كانت الأمور واضحة، ليس فقط على الساحة الأمريكية، بل في الميدان العالمي الذي يتأثر مباشرة بحركة مؤشر الفائدة الأمريكية، منذ أن اعتمد الدولار عملة للتجارة العالمية في 1944.
مطلع العام الجاري، ارتفع الدولار 10 في المائة، حتى إنه تسبب في "إحراج" واضح لمنطقة اليورو، عندما تساوت العملة الأمريكية بالعملة الأوروبية الموحدة، فالحاجز النفسي في ساحة العملات يبقى محوريا، بصرف النظر عن استدامة أو عدم استدامة قوة الدولار. وفي النصف الأول من العام الجاري، خسر الجنيه الاسترليني 10 في المائة من قيمته مقابل الدولار، في أسوأ أداء له منذ 2016 عندما أجري استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
ويدفع صعود الدولار الأخير بالاقتصاد العالمي نحو تباطؤ أكبر، بسبب زيادة تكاليف الاقتراض وإذكاء تقلبات الأسواق المالية. ارتفاع مقياس الدولار إلى أعلى مستوى في عامين الذي تتم مراقبته عن كثب، بعد أن شرع مجلس الاحتياطي الفيدرالي في سلسلة من الزيادات في أسعار الفائدة للحد من التضخم، وقد لجأ المستثمرون إلى شراء الدولار كملاذ آمن وسط حالة عدم اليقين الاقتصادي، كما أن ارتفاعه يهدد أيضا برفع أسعار الواردات للاقتصادات الأجنبية، ما يؤدي إلى زيادة معدلات التضخم فيها، واستنزاف رأس المال.
الضغوط على العملات العالمية الرئيسة لن تتوقف بفعل الارتفاعات المتكررة للفائدة، حيث من المتوقع أن تصل إلى 3.5 في المائة بحلول العام المقبل. وسط تصاعد الضغوط التضخمية في كل الدول تقريبا. فمثلا، يحتل الين الياباني أمام العملة الأمريكية أسوأ وضعية له على الإطلاق، والضغوط مستمرة عليه، دون وجود بارقة أمل واحدة لانفراج اقتصادي عالمي قريب. أما بالنسبة لعملات الدول الأخرى الناشئة والأشد فقرا، فتعاني أزمة تلو الأخرى، ليس فقط بفعل ارتفاع أسعار المستهلكين، بل في نطاق خدمة ديونها. فأغلب هذه الديون مقومة بالدولار، وارتفاع الأخير يضيف أعباء لا تنتهي على هذه الدول، التي تسعى منذ الأزمة التي ولدتها جائحة كورونا، إما إلى إعادة جدولة الديون، أو الحصول على إعفاءات ما من جانب الدول الدائنة.
الفائدة الأمريكية التي ترتفع بصورة دورية، قلبت بعض الموازين، في مقدمتها مثلا، أن الدولار صار ملاذا آمنا للمستثمرين، محتلا وضعية الذهب في هذا النطاق، ولذلك تسارعت التدفقات المالية إلى الولايات المتحدة في النصف الأول من العام الجاري، بما في ذلك أموال انتقلت من منطقة اليورو إلى الساحة الأمريكية. العائد على السندات يرتفع، ما وفر للإدارة الأمريكية التي تصر بتصاريحها الرسمية على أن اقتصادها لا يزال خارج دائرة الركود تمويلات جديدة للإنفاق على مخططات الإنقاذ والتحفيز عموما، لكن المخاطر تبقى حاضرة على صعيد التباطؤ الاقتصادي الأمريكي الذي أصبح العنوان الأبرز في الوقت الراهن، خصوصا إذا ما تراجع توسع الاقتصاد بمستويات كبيرة في مرحلة ما، كما يتوقع مراقبون أن الركود بات على الأبواب حقا.
وهل يمكن أن تنعكس الأمور بهذا الصدد؟ نعم خصوصا إذا ما بقي التضخم خارج السيطرة. ففي مثل هذه الحالات لا تعد الفائدة المرتفعة ذات قيمة، في الوقت الذي ستعمق التباطؤ، حيث يعود الانكماش الذي انتهى للتو إلى الساحة. وآثار الدولار القوي ستظل موجودة خلال الفترة المقبلة، فهي تشمل الدول المتقدمة والناشئة بكل سلبياتها ومخاطرها.
والمشكلة الرئيسة حاليا، هي أن تتحول سياسة التشديد النقدي، والتخلص من استراتيجية التيسير الكمي إلى أداة غير مجدية، بعض المراقبين يصفونها بـ "غير المجدية" إذا لم تحقق الهدف الأهم، وهو الحد من التضخم على الأقل، لأن التخلص نهائيا من ارتفاع أسعار المستهلكين صار مهمة شبه مستحيلة في المستقبل المنظور.
المؤشرات كلها تدل على أن "المركزي الأمريكي" سيستخدم سلاحه الوحيد حاليا، وهو رفع الفائدة، مع غياب أي بدائل أخرى. وبالتالي، فإن الضغوط الناجمة عن الدولار القوي ستتواصل بأشكال مختلفة. صحيح أن بعض الدول يمكنها أن تتحمل عملة أمريكية قوية، لكن هناك القاعدة الأوسع من الدول لا يمكنها التعايش فترة طويلة مع الدولار القوي، سواء من جهة الديون أو تكاليف الواردات، وما يرتبط بها. وهذا الأمر مثير للقلق خصوصا بالنسبة للاقتصادات الناشئة، التي تضطر إما إلى السماح لعملاتها بالضعف، أو التدخل لتهدئة انحدارها، أو رفع أسعار الفائدة في محاولة لدعم مستويات صرف العملات الأجنبية لديها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي