العقار .. صلابة أم منحنى عكسي؟
تجربة انهيار أسواق الرهن العقاري في الولايات المتحدة عام 2008 كانت قاسية، ولا أحد يريد تكرار تلك الأحداث، وما استتبعتها من انهيار في سوق السندات، وتعرض النظام المصرفي إلى خطر كبير مع إفلاس بنوك كانت تصنف من العمالقة. وبدأت تلك التجربة مع توسع كبير في الرهون العقارية التي كانت تصدر في مقابلها سندات، ثم مع بدايات الأزمة ظهر تعثر عديد من العملاء في سداد أقساط الرهون، ومن ثم انطلقت موجات البيع القسري التي انتهت بكارثة عمت العالم، وتم حل تلك الإشكالية من خلال برامج التيسير الكمي، وشراء الحكومات الأصول السيئة.
حققت تلك السياسة نتائج جيدة، بل حققت الحكومات أرباحا من إعادة بيع الأصول للأسواق، لكن لتثبيت النجاح بقيت أسعار الفائدة متدنية بشكل كبير، حتى وصلت إلى المستويات الصفرية، وهذا شجع بشكل غير مسبوق توسع أنشطة الرهن العقاري، وتحركت أسعار المنازل بإيجابية طوال عقد كامل، ثم جاءت الجائحة لتجبر الناس على البحث عن منازل أكبر، حيث ألزمت الأزمة الصحية العالمية الناس قضاء مزيد من الوقت في منازلهم، ووفقا لمؤشر أسعار المنازل الحقيقية لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بين نهاية 2019 والربع الثالث من 2021، زادت قيمة المساكن أكثر من 30 في المائة في نيوزيلندا، مع تسجيل أستراليا وكندا والولايات المتحدة زيادات بنحو 20 في المائة، وتبعها عديد من الدول الناشئة، لكن الأمور اليوم تأخذ مسارا مغايرا تماما، فالاتجاه الصاعد للأسعار بدأ يأخذ منحنى عكسيا، وذلك تباعا للتغيرات في أسعار الفائدة، ما يقدم دليلا على نهاية طفرة في أسعار المساكن استمرت عامين.
واضطرت الدول المتقدمة إلى رفع أسعار الفائدة أكثر من مرة، حتى البنك المركزي الأوروبي الذي كان مترددا بشأن ذلك، اتخذ قراره نهاية الأسبوع الماضي برفع سعر الفائدة، ومع كل تغيير، فإن القطاع العقاري هو أول المتأثرين، والمشاهدات تتراكم حول العالم عن انخفاض الأسعار مع تشديد السياسة النقدية، فهناك تقارير عن انخفاض الأسعار 20 في المائة في كندا ونيوزيلندا، و15 في المائة في أستراليا، و10 في المائة في السويد، بينما قد تنخفض قيمة المنازل بنسبة تراوح بين 5 و10 في المائة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
ورغم أن هذا التراجع قد يكون محفزا على الشراء، إلا أن الجميع يرجح تباطؤ النمو في نشاط الشراء حول العالم، وأن معظم المستهلكين للمنازل هم الذين يقومون بشرائها من خلال أنظمة الرهن العقاري، ومع ارتفاع أسعار الفائدة، فإن عددا من الراغبين في الشراء أصبحوا فعليا غير مؤهلين لذلك، فلقد تم رصد تأخير في الموافقات والطلبات على الرهن العقاري، ما يعزز فرضية تعثر هذا النشاط.
من اللافت للاهتمام ذلك القلق المتزايد من زيادة حالات البيع القسري، ما يعيد الجميع إلى مشهد انهيار السوق العقارية 2008، فقد تزايدت احتمالات البيع القسري في الأسواق التي تمر بربط الرهون العقارية فيها بأسعار فائدة متغيرة، تبدو جذابة عندما تكون الفائدة منخفضة والأسواق نشطة، وكان هناك اتجاه سائد بخفض الفائدة في المستقبل، لكنها تفقد هذه الجاذبية عندما تتحول الأمور وتتباطأ الأسواق وأسعار الفائدة تتجه إلى الارتفاع. في المقابل تبدو الفائدة الثابتة غير جاذبة عندما يكون الاتجاه نحو خفض سعر الفائدة، لكنها تجد إقبالا عندما يتغير الاتجاه، ما يحصل الآن في الأسواق العالمية أن الأسر بدأت تكافح مع ارتفاع تكاليف الرهن العقاري، وهناك حالات من التخلف عن السداد وعمليات بيع، كما أن هناك نسبة كبيرة من المقترضين على استعداد لتجديد عقودهم بأسعار ثابتة، لكن حتى مثل هذا الخيار لم يعد جيدا، فالعقود الجديدة ستكون بأسعار أعلى، حيث يتوقع الجميع اتجاها أعلى للفائدة، ولذلك فإن الأسعار الحالية للفائدة قد تكون أفضل بكثير من المطروح في المستقبل المنظور ما لم ينخفض التضخم بسرعة وتتراجع البنوك المركزية عن تشديدها النقدي. لكن إذا استمرت الأمور على هذا النحو، فإن حالات البيع القسري للرهون العقارية قد تصبح المشهد الأكثر انتشارا حول العالم، وفي حالة كهذه، فإن اتكاء العالم سيكون على مدى سلامة وقدرة النظام المصرفي على امتصاص الصدمة.
ويشير تقرير لـ "الاقتصادية" إلى أن المحللين واثقون من أن النظام المصرفي في الاقتصادات المتقدمة لا يزال قادرا على الصمود في وجه أي انخفاض كبير في تقييمات المساكن، بعد أن قام بتكوين احتياطيات رأسمالية أقوى في أعقاب الأزمة المالية في 2008. لكن على كل حال فإن اختبار الصلابة قادم بلا شك، وهذا الوضع للنظام المصرفي ليس له فحسب، بل في صلابة البنوك المركزية والاستمرار في رفع أسعار الفائدة حتى لو أدت إلى انهيار سوق الرهن العقاري.