المصارف الأمريكية أمام ركود اقتصادي محتمل .. هل استعدت للمواجهة؟
صب قسم الأبحاث الدولية في بنك أوف أمريكا جام غضبه على مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي متهما إياه بالفشل في التحرك المبكر برفع أسعار الفائدة لكبح جماح التضخم.
وكتب المحللون في البنك "لقد تأكدت أسوأ مخاوفنا بشأن الاحتياطي الفيدرالي، لقد تخلفوا كثيرا عن الركب- إشارة إلى التأخر في رفع أسعار الفائدة- والآن يلعبون لعبة خطيرة للإلحاق به، سيتباطأ نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقرب الصفر، وسيستقر التضخم عند 3 في المائة، وسيرفع بنك الاحتياطي المركزي الفيدرالي معدلات الفائدة إلى 4 في المائة".
ودفعت تلك التقديرات بالخبراء في "وول ستريت" إلى توقع أن يكون هناك احتمال بنسبة 40 في المائة أن يدخل الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود بحلول العام المقبل.
أما تقديرات بنك مورجان ستانلي بشأن موجة الركود المقبلة، التي ستصيب الولايات المتحدة فقد كانت أسوأ من تقديرات "وول ستريت"، إذ أعرب البنك عن احتمال يبلغ 50 في المائة أن يصاب الاقتصاد الأمريكي بالركود، محذرا من أن المستثمرين يواجهون طريقا وعرا.
سواء كانت إصابة الاقتصاد الأمريكي بالركود 40 أو 50 في المائة، فلا شك أن اقتصاد الولايات المتحدة يتجه إلى أوضاع غير طيبة بأي حال من الأحوال.
ولكن ماذا عن القطاع المصرفي الأمريكي؟ ولماذا الاهتمام بقطاع البنوك الأمريكية تحديدا في ظل مخاطر الركود التي تلوح في الأفق؟ وهل النظام المصرفي الأمريكي من الصلابة لمواجهة الموجة المقبلة من الركود؟
ربما يعد السبب الرئيس وراء تركيز الاهتمام حاليا على الإسراع باستكشاف مدى قدرة النظام المصرفي الأمريكي على التصدي لمواجهة الركود القادم، إلا أنه إذا اجتاح الركود الاقتصادي الولايات المتحدة، وترافق ذلك مع عدم قدرة القطاع المصرفي على مواجهته، فإن الاقتصاد الأقوى في العالم قد يدخل في أزمة اقتصادية مستفحلة ستدوم طويلا.
في فترات الركود تميل معدلات البطالة إلى الارتفاع، ويواجه مزيد من المستهلكين مشكلات مالية، وغالبا ما يجدون صعوبة في سداد فواتيرهم، وقد يؤدي ذلك لزيادة خسائر البنوك.
كما أن فترات الركود مقترنة بتقلص أرباح الشركات أو تعرضها للخسائر، ومن ثم عدم قدرتها على سداد ما عليها من فوائد للبنوك ناهيك عن أصل رأس المال، وربما تكون الشركات في حاجة إلى مزيد من السيولة المالية، وقد ترفض البنوك إقراضها أو تفرض شروطا تعسفية في عمليات الإقراض قد يصعب على الشركات والأفراد الإيفاء بها.
يشير الخبير المصرفي جون فيليب إلى وجود بعض المؤشرات غير المريحة في الوقت الراهن ببروز بعض ملامح الركود في الولايات المتحدة، فبعض المستهلكين، خاصة الأقل ثراء يواجهون صعوبة في دفع فواتيرهم في الوقت المحدد.
ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا، "لم يحقق عملاقا الائتمان شركة ديسكفري وCOF التوقعات الخاصة بالأرباح الفصلية وتراجعت قيمة أسهمهم، كما ارتفعت معدلات تأخر الأفراد في السداد بشكل طفيف، ونتيجة لذلك عزز عملاقا الائتمان احتياطياتهما المالية للتعامل مع خسائر الائتمان المستقبلية. من جانب آخر، أعلنت شركة الاتصالات AT&T أن عملاءها يدفعون فواتيرهم الشهرية ببطء أكبر، وهناك زيادة في الديون المعدومة أعلى قليلا من مستويات ما قبل وباء كورونا".
لكن جون فيليب يوضح أن هناك شركات ائتمان أخرى مثل أمريكان إكسبريس تجاوزت أرباحها التوقعات، ما أدى إلى ارتفاع سهمها بأكثر من 4 في المائة، ما يعطي من وجهة نظره انطباعا بتعرض الاقتصاد الأمريكي في الوقت الراهن لحالة من التجاذب بين قوى الركود، التي تصيب الأقل ثراء من المستهلكين، بينما المستهلكون الأكثر ثراء لم يقوموا بشد الأحزمة بعد.
البنوك الأمريكية ليست بعيدة عن تلك الوضعية المزدوجة، فرؤساء مجالس الإدارات يعترفون بأنهم يستعدون لأوقات تبدو عصيبة، ويقومون بتخصيص مزيد من الأموال للقروض المعدومة، لكن حتى الآن لا تبدو المشكلة كبيرة، وهو ما يجعل البنوك الأمريكية ترفع الآن شعار "الأمل في الأفضل والاستعداد للأسوأ".
بدورها، تقول لـ"الاقتصادية" نينا سيلفربيرج، المحللة المالية في مجموعة نيت ويست المصرفية، "انخفض مؤشر البنك في مؤشر S&P 500 بنسبة 25 في المائة تقريبا هذا العام، وإذا كان المقرضون يجنون الأرباح مع رفع أسعار الفائدة، فإن المستثمرين يتخلصون من أسهم البنوك خشية أن يؤدي رفع الفائدة من قبل الفيدرالي الأمريكي لترويض التضخم إلى إبطاء النمو الاقتصادي، وإلحاق الضرر بنمو القروض وزيادة خسائر الائتمان".
وتضيف "إذا أدت الزيادة الشديدة في أسعار الفائدة إلى ركود عميق في الاقتصاد الأمريكي هذا العام أو أوائل العام المقبل، فمن المحتمل أن يصل متوسط أسهم أكبر 20 بنكا في الولايات المتحدة إلى 65 في المائة من قيمتها الدفترية".
لكن عددا من الخبراء الآخرين لا ينفون أن الاقتصاد الأمريكي في طريقه للركود، لكنهم يعتقدون أن النظام المصرفي الأمريكي سيكون قادرا على مواجهة التحديات، التي سترافق الركود الاقتصادي.
فعلى الرغم من أن التقارير الواردة من الولايات المتحدة أظهرت أن ستة من عمالقة البنوك الأمريكية عانت انخفاضا كبيرا في الأرباح في الربع الثاني من هذا العام، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، نتيجة رصدها مخصصات مالية جديدة تحسبا لتخلف العملاء عن السداد، إلا أن الخريطة العامة لأرباح البنوك الأمريكية كشفت مرونة في الاقتصاد الكلي ولدى المستهلكين، وهذا في حد ذاته يعني أن الركود الذي قد يصيب الولايات المتحدة ربما يكون معتدلا.
ولـ"الاقتصادية" يعلق البروفيسور إل. دي تومي الاستشاري في بنك إنجلترا قائلا، "البنوك الأمريكية حتى الآن لم تشهد ارتفاعا كبيرا في عمليات الخصم من القروض المعدومة، فعديد من الأسر الأمريكية لا يزال لديها احتياطي من مدخرات الأموال التي منحتها إياها الحكومة الأمريكية عندما كان لديها برامج إغاثة سخية خلال جائحة كورونا".
ويضيف "المدخرات الأمريكية وفرت وسادة قوية خففت من الضغط الذي تتعرض له البنوك الأمريكية، مقارنة بنظيرتها الأوروبية، حيث تعاني أوروبا مشكلات حادة في ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، مقارنة بالولايات المتحدة، ما استهلك جزءا أكبر من مدخرات الأسر، مع هذا يمكن القول إن هناك انخفاضا حادا في ثقة المستهلك الأمريكي، مقارنة بأوقات سابقة من العام الماضي، لكن البنوك الأمريكية يمكن أن تدخل الركود في وضع أفضل من نظرائها في أوروبا".
وبالفعل ففي آخر تقرير لأرباح عمالقة البنوك في الولايات المتحدة خلال الربع الثاني من هذا العام تراجعت الأرباح 48 في المائة حيث بلغت 2.8 مليار دولار، ويرجع ذلك جزئيا إلى قرارها بتخصيص 667 مليون دولار من المخصصات لخسائر الائتمان، ما يكشف غياب التفاؤل تجاه المستقبل، دون أن يعني ذلك وجود دليل على وضع كارثي في المستقبل.
وفي ظل القلق الراهن بشأن الركود الأمريكي القادم، والتساؤل حول قدرة النظام المصرفي على التعامل معه، اختبر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأوضاع المالية لأكبر 34 بنكا في الولايات المتحدة، لمعرفة كيفية تحمل ميزانيتها العمومية للانخفاضات الحادة في أسعار الأصول، خاصة العقارات التي يمكن أن تتعرض أسعارها لمخاطر محدقة في حالة ضرب الركود الاقتصاد الأمريكي، ووفقا لما خلص إليه الفيدرالي الأمريكي، فإن اختبارات الإجهاد تظهر أن البنوك الكبرى يمكنها تحمل ركود حاد، وأنها تحتفظ برؤوس أموال جيدة ويمكنها تحمل تباطؤ النمو الاقتصادي.
وكانت اختبارات الإجهاد تلك قد بدأت تحظى بأهمية كبرى منذ 2008 عندما كانت الانهيارات في البنوك الأمريكية سببا رئيسا للأزمة المالية العالمية، وباتت جزءا من فحص سنوي يعتمد على تصميم سيناريو كارثي افتراضي يتناسب مع القوة الحالية للاقتصاد.
ولـ"الاقتصادية" يعلق الدكتور جوردون سكوت، الخبير المصرفي وأحد المسؤولين عن اختبارات الإجهاد للبنوك البريطانية قائلا "كان سيناريو اختبارات الإجهاد للبنوك الأمريكية لعام 2022 أسوأ من السيناريو الذي طبق على البنوك العام الماضي، لأن الاقتصاد قد تحسن، واجتازت جميع البنوك الاختبار، مع الأخذ في الحسبان أن البنوك الكبرى لا تختبر سنويا، وبعض البنوك أصغر من أن تتأهل للامتحانات السنوية، وبعضها يخضع للاختبار كل عامين، وسيناريو إجهاد 2022 الذي ابتكره الاحتياطي الفيدرالي كان أسوأ من أي ركود في العالم منذ الحرب العالمية الثانية بما في ذلك الأزمة المالية لعام 2008".
ويخلص الدكتور جوردون سكوت إلى أن البنوك الأمريكية الكبرى لا تزال في وضع ممتاز لإقراض الأسر والشركات ودعم النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة.
مع هذا يحذر بعض الخبراء من أنه إذا استمرت الجهات التنظيمية في الولايات المتحدة في زيادة متطلبات رأس المال، فقد يتم تقييد قدرة البنوك على الإقراض، وهو ما قد يمثل هزة حقيقية للاقتصاد الأمريكي، خاصة أن المستهلكين والشركات زادوا من اقتراضهم من أكبر البنوك بمعدل 6 في المائة في الربع الثاني من هذا العام، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ما جعل أكبر مكسب تحققه البنوك يأتي من قروض الشركات، التي ارتفعت 20 في المائة تقريبا عن العام السابق، خاصة في بنكي مورجان ستانلي وبنك أوف أمريكا، بينما تباطأت قروض الرهن العقاري في الربع الثاني نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة.
على أي حال لا تزال البنوك الأمريكية تتمتع بوضع جيد لمواجهة الركود القادم، لكن عدم اليقين الاقتصادي وتوقع زيادة عدد المقترضين خاصة الأفراد الذين سيتخلفون عن سداد قروضهم، وتقديرات أكبر ستة بنوك أمريكية بأن خسائر قروضها ستزيد خلال العام المقبل بنحو ملياري دولار، يتطلب متابعة دقيقة للوضع واتخاذ جميع المحاذير الواجبة، تحسبا لأي مفاجأة قد لا تحمد عقباها.