الاجتهاد يهزم الموهبة
نقلل من شأن أفعالنا الصغيرة، مثل إماطة كيس صغير عن طريق المارة وكلمات بسيطة ألقيتها مازحا أو نظرة صدرت منك دون قصد كردة فعل لحدث أو حديث أمامك، تصرفات صغيرة جدا لا نلقي لها بالا كرمشة عين أو رفرفة جناح فراشة، ولا نعلم أن هذه الحركة البسيطة هي محرك عظيم لأمور قد لا يتخيلها عقلك سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي والسياسي حتى الاقتصادي والبيئي.
في بداية الستينيات، كان إدوارد نورتون لورنتز عالم الرياضيات والأرصاد الجوية الأمريكي، يجرب نظاما ابتكره للتنبؤ بحالة الطقس، فأجرى تجربتين، في التجربة الأولى أدخل بيانات رقمية بست خانات عشرية بعد الفاصلة متعلقة بالطقس، وتضمنت الرطوبة ودرجة الحرارة وسرعة الرياح... إلخ، إلى حاسوب نظامه المبتكر، وفي التجربة الثانية أدخل ثلاثة أرقام بعد الفاصلة فقط في محاولة منه لكسب الوقت، فظهرت له رسمتان بيانيتان لكلتا التجربتين، النصف الأول من الرسمتين متشابه، أما النصف الثاني فمختلف تماما، ظن لورنتز في البداية أن خللا أصاب النظام، إلا أنه أدرك الخطأ الذي ارتكبه عندما أهمل ثلاث خانات من أصل ست بعد الفاصلة، معتقدا أن هذه الكسور الصغيرة جدا لن تغير النتيجة لبساطة تأثيرها. ومن هنا جاء مصطلح "تأثير الفراشة"، إذ إن التفاصيل الصغيرة التي لا ندرك تأثيرها قد تكون سببا في إيجاد التغيير مع التراكم والوقت.
إنها نظرية فلسفية أكثر منها فيزيائية كما يعتقد البعض، لأننا إذا طبقناها على جوانب الحياة والعلوم المختلفة سنجد أنها تتعدى بكثير حدود الفيزياء، إنها نظرية "الفوضى" التي تصنع الفرق، وهي نظرية فلسفية فيزيائية تعتقد بأن الأسباب الصغيرة، لها تأثير واضح في النتائج على المدى البعيد، وتعتمد على ما يسمى بـ"حساسية الظروف الأولية"، أي إن النظام يكون حساسا تجاه المتغيرات البسيطة التي تحدث منذ بداية عمله.
فعل بسيط جدا قد لا يرى، لكن أثره لا يزول كما قال محمود درويش، "أثر الفراشة لا يرى، أثر الفراشة لا يزول"، لن أقول لك أطلق العملاق الذي في داخلك لتنجح، بل كل ما عليك أن تحث فراشتك الصغيرة لترفرف بجناحها، وكل رفرفة منها تصنع ذلك التغيير الطفيف في أحد جوانب حياتك، لتشكل مجموعة التغييرات مع مرور الزمن ونجاحا كبيرا، سينقلك إلى الجانب الآخر الذي تريده بأقل مجهود ودون موهبة، فقط اجعلها تحرك ذرات الهواء من حولك بجناحيها، إنها النار التي اشتعلت من مستصغر الشرر والحصى الذي تعاظم فكون الجبال الراسية.