رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


التضخم والجائحة .. لوقفة واحدة

نبه وحذر كثير من التقارير، التي صدرت عن المنظمات الاقتصادية المتعلقة بتأمين الغذاء وتحديد مؤشرات الأسعار من ارتفاع لهيب وجنون الأسعار، الذي شهدته الأسواق العالمية أخيرا، خاصة في جانب السلع الأساسية، التي يعتمد عليها الجميع في حياتهم اليومية الضرورية بسبب الآثار السلبية التي صنعها ارتفاع معدلات التضخم في العالم، التي بلغت أرقاما غير مسبوقة في معظم الدول بجانب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن.
أسعار المواد الغذائية في بلاد المنشأ بدأت تشهد ارتفاعات متلاحقة تزامنا مع بدء جائحة كورونا وتعطل سلاسل التوريد التجارية وزيادة أجور الشحن، وتعمقت كثيرا منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. خطر نقص السلع والمواد الخام يهدد العالم، كما أن النقص في المواد الغذائية والصناعية المهمة يطلق العنان لجنون الأسعار. وتراجعت مخزونات المواد الخام المهمة للاقتصاد العالمي إلى أدنى مستوياتها التاريخية، كما تهدد مشكلات العرض والطلب المتزايدة بتسارع أرقام التضخم في جميع أنحاء الأرض. وتفاقمت الأوضاع بشكل كبير على خلفية ارتفاع التضخم المديد، مع تزايد المشكلات اللوجستية والطلب في عديد من الاقتصادات التي تتعافى من عمليات الإغلاق الناجمة عن فيروس كورونا.
فاليوم لا شيء يعلو فوق صوت الألم من ارتفاع الأسعار حتى أصوات الرصاص والقنابل في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا وفي النزاعات المحلية، خفت جميعها أمام أنين المجتمعات من ارتفاع الأسعار في أنحاء العالم، ويقابل هذا الأنين صوت مبحوح من المؤسسات الدولية، الذي لا يكاد يخفي التخبط الذي تعانيه وعدم قدرتها على التبصر ولا يخفى معه أيضا القلق من المستقبل وضبابية الطريق الذي يمضي فيه الاقتصاد العالمي، فالمؤسسات الدولية والبنوك المركزية تبدو حائرة تماما حول الأسباب الحقيقية لارتفاع الأسعار، فالبعض يلقي اللوم على روسيا للعملية العسكرية في أوكرانيا، على أساس أن الدولتين هما المنتجان الرئيسان للحبوب، كما تعد روسيا مصدرا رئيسا للطاقة لأوروبا، ومع قرارها تقليص إمدادات الغاز الطبيعي إلى المنطقة ارتفعت أسعار السلع الأساسية ومدخلات التصنيع وبالتالي الأسعار النهائية، والبعض الآخر يلقي اللوم على تسبب الحرب في تعطيل وتهديد سلاسل الإمداد العالمية وتأمين وصول الحبوب والأسمدة للعالم، لكن هنا من يقول إن الأسعار ارتفعت بسبب أن الطلب القوي على السلع فاق العرض مع بدء الاقتصادات في العودة من أزمة كورونا إلى طبيعتها، ولكبح الطلب القوي أطلقت الولايات المتحدة دورة تشديد للسياسة النقدية تزامنا مع رفع أسعار الفائدة وتبعها في ذلك 76 بنكا مركزيا، أو نحو ثلاثة أرباع البنوك المركزية وبلغ متوسط الزيادة الكلية في أسعار الفائدة 2.8 نقطة مئوية، أي نحو ضعف الزيادة البالغة 1.7 نقطة مئوية في الاقتصادات المتقدمة، وهذا قاد إلى رفع تكلفة رأس المال، وبالتالي الأسعار، كما أن هذه السياسة قادت إلى ارتفاع سعر الدولار، ما نتج عنها زيادة مشكلات الدول التي تعاني مصاعب اقتصادية وديونا كبيرة، لكن بغض النظر عن الأسباب والملامة، فإن النتيجة لكل هذا هو خفض توقعات صندوق النقد للنمو العالمي لـ 2022 و2023. في مشهد يصفه الصندوق بأنه مظلم وغامض ويزداد ضعفا وتدهورا أكثر، وأن صندوق النقد سيخفض بشكل أكبر تقديرات النمو العالمي عن تلك الصادرة في نيسان (أبريل) التي بلغت 3.6 في المائة، وحذرت من أن الأشد فقرا سيكونون الأكثر تضررا، موضحا أن خطر "الاضطرابات الاجتماعية" يتزايد لارتفاع أسعار الغذاء والطاقة.
وعموما هناك ارتفاع في الأسعار وحرب وأيضا طلب قوي يصاحبه رفع متصاعد في أسعار الفائدة ودول تعاني ديونا ولديها نقص في الإمدادات، كما أنها قد تواجه اضطرابات اجتماعية، ومن بين هذه القضايا يرى خبراء اقتصاديون أن محاربة ارتفاع الأسعار أمر بالغ الأهمية، و"القيام بعمل ما الآن سيكون له آثار أقل ضررا مما لو تم التحرك لاحقا". ولا شك أن هذا صحيح نوعا ما فالحرب وآثارها يمكن تداركها من خلال المفاوضات المستمرة وبالمساعدات، وكذلك الدول الأكثر تضررا، لكن مسألة ارتفاع الأسعار لا يمكن معالجتها بهذه الطريقة، كما أن آثارها ستمتد إلى ركود تضخمي طويل المدى، ما يجعل المساعدات التي تذهب إلى الدول الأكثر تضررا أقل كلما امتدت الأزمة الاقتصادية العالمية، ولهذا تجب مكافحة ذلك كأولوية عالمية. وفي هذا فإن العالم اليوم بحاجة ماسة إلى اتخاذ إجراءات أكثر حزما ومباشرة من رفع سعر الفائدة، كما أن رفع سعر الفائدة الأمريكية تسبب في ارتفاع سعر الدولار وتدفق محافظ الاستثمار خارجة من الأسواق الصاعدة، ما يفرض ضغطا إضافيا على الدول الضعيفة.
وإذا كان رفع سعر الفائدة يعد حلا مثاليا في الاقتصادات المتقدمة فهو بسبب تدفقات محافظ الاستثمار الخارجة من الأسواق الصاعدة ولا يقدم حلا مثاليا لهذه الأسواق، وتم طرح مقترحات على هامش اجتماع وزراء مالية دول مجموعة العشرين ومحافظي المصارف المركزية في بالي، وعدة حلول تركز جميعها على ضرورة مكافحة التضخم كأولوية، فمن جانب، يجب خفض الإنفاق الحكومي الذي من شأنه أن يساعد جهود البنك المركزي، ومن جانب آخر يجب التدخل في سوق الصرف الأجنبية والقيام بتدابير إدارة تدفقات رأس المال في سيناريو الأزمة، وينبغي للدول أن تخفض على نحو وقائي، من اعتمادها على الاقتراض بالعملة الأجنبية متى كانت مستويات دينها مرتفعة، ومن الضروري تعزيز "العمل الدولي المنسق"، بما فيها الدول الغنية التي تقدم مساعدات أساسية للدول الفقيرة، خاصة تخفيض الديون كضرورة ملحة، خاصة في الاقتصادات الناشئة والنامية التي تقوم التزاماتها المالية بالعملات الأجنبية وتعد بدورها الأكثر عرضة للمخاطر، فهذه الدول تدعو المجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات جريئة لدعم شعوبها، إن هذه النصائح والمقترحات يجب أن نلتفت إليها ونعطيها أهمية وأولويات.
مع هذه القراءة السريعة والشاملة، فإن العالم يجب أن يقف أمام التضخم كوحدة واحدة، ويتناسى خلافاته، وكما كان المشهد متحدا وقويا في مواجهة فيروس كورونا، يجب أن تكون الوقفة كذلك أمام مرض التضخم الذي أصاب الاقتصاد العالمي. فرفع أسعار الفائدة لن يكون أثره محمودا أمام الدول الأكثر فقرا أو الأقل تنظيما، التي توصف بالناشئة عادة، ولذلك فلا بد من معالجات أكثر عمقا، لكن مثل هذا القرار يجب ألا يكون أحادي الجانب، بل تعاونا دوليا واسع النطاق، والعالم اليوم أمام الاختبار نفسه الذي لازمه طوال أزمة انتشار فيروس كورونا، وعلى المؤسسات الدولية في الوقت الراهن مسؤولية كبيرة لقيادة العالم والخروج من هذه الأزمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي