فخ التضخم
منذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، انقلب حال الاقتصاد العالمي رأسا على عقب، بعد آمال عريضة بنمو قوي حيث أصبح العالم يكافح ضد الركود التضخمي، والأسوأ أن التأثير متفاوت بين دول العالم والكل يجاهد ويعالج التضخم بطريقته الخاصة، فالتضخم أصبح واقعا اقتصاديا عالميا سلبيا بكل ما يحمله من قلق وتوتر، وهو بذاته يشبه ارتفاع ضغط الدم عند الإنسان، فإذا تركته دون مراقبة قد يقودك إلى حالة أزمة قلبية، وإذا راقبته فكيف تتعايش معه وتتخذ قراراتك؟.
ففي زمن التضخم تتشعب القرارات بحسب قضايا الاقتصاد الكلي بالجزئي، وعند مستوى استهلاك الأسر قد يضطرب القرار بين الحاجة إلى البنزين للذهاب إلى العمل وبين نفقات الأكل والمسكن، وعلى المستوى الكلي تضطرب البنوك المركزية في اتخاذ قرارات واضحة بشأن رفع أسعار الفائدة، قرارات يجب أن تكون استباقية وليست ردة فعل، حيث يجب على هذه البنوك تتبع مؤشرات عرض النقود، وتتبع حالة الطلب الكلي ومؤشرات المستهلكين، وأن يتوافر لديها نماذج محاكاة قادرة على فهم الاتجاه المقبل ومن ثم تغير في أسعار الفائدة بحسب هذه النماذج حتى تحقق التوازن المطلوب في المستقبل، فيتم التحكم في ارتفاع الأسعار مع تجنب ركود تضخمي طويل الأجل.
الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة مريض العناية المركزة تجب متابعة جميع مؤشراته الحيوية باستمرار واتخاذ التدابير الوقائية حسب تطورات الحالة ودرجة الاستجابة، لكن ما يقلق هنا هو كثرة الأطباء والمشرفين على الحالة، ويبدو العالم في حالة من الاضطراب الجماعي خاصة بعد قرار المركزي الأمريكي رفع أسعار الفائدة، اضطراب بدا واضحا على تصريحات البنك المركزي الأوروبي المكلف بالتعامل مع تطور الأسعار في منطقة اليورو، وقرر البنك المركزي الأوروبي رفع سعر الفائدة بواقع 25 نقطة أساس، وقد تستمر هذه السياسة حتى نهاية سبتمبر المقبل، لكن رئيسة البنك المركزي الأوروبي بدت غير واثقة من هذه الخطوة، حيث أكدت أن حجم الخطوة الثانية سيتوقف على تطورات التضخم وقد تكون أكبر من الأولى، ولزيادة حجم الاضطراب قال عضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، إنه تجب زيادة معدل الفائدة بواقع 125 نقطة أساس في الشهور المقبلة، والزيادة المبدئية في يوليو الجاري يجب أن تكون 50 نقطة أساس لتوجيه الاقتصاد بشكل استباقي نحو وضع أكثر هدوءا، وتعود الأسباب الكامنة في هذا الاضطراب إلى أن البنوك المركزية العالمية هي الأخرى مضطربة وتسارع من وتيرة تشديد السياسة النقدية.
ورغم التجربة الاقتصادية الضاربة في عمق التاريخ الاقتصادي الأوروبي إلا أن أوروبا اليوم تبدو مزعزعة، فالمتحدثون باسم البنك المركزي الأوروبي يرون أن المرحلة الحالية غير مسبوقة، ومستويات التضخم الحالية في أسعار المواد الغذائية والمنتجات الصناعية بلغت حدا لم نلحظه منذ منتصف الثمانينيات، وزيادة أسعار الطاقة أصبحت أعلى بكثير من الحدود القصوى التي سجلت بصورة موضعية في السبعينيات خلال الصدمة النفطية الأولى، وفي وضع كهذا ومع تضارب صريح في التصريحات بشأن اتجاهات أسعار الفائدة، ومع قلق واضح من اتجاهات الأسعار أيضا، فقد انخفض سعر صرف اليورو أمام الدولار بشكل قياسي وتاريخي، فالجميع أصبح قلقا بشأن قدرة أوروبا على التعامل مع الحالة الراهنة، والسبب فيما يبدو أن هذه الحالة غير مسبوقة، فمنطقة اليورو على حد وصف البعض تمر بسلسلة من الأحداث في عالم تسوده الفوضى، فالحرب الروسية - الأوكرانية أدت إلى قفزات كبيرة للتضخم في أوروبا والعالم في ظل ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، كما أن رفع القيود الصحية بعد مكافحة الوباء قاد إلى ارتفاع حاد في إنفاق الأسر على الخدمات، وهذا ما يظهر بوضوح مع ازدهار النشاطات السياحية والترفيهية، الأمر الذي يحرك بدوره التضخم، وبلغ ارتفاع أسعار الخدمات 3.5 في المائة في مايو، وهو أعلى مستوى منذ منتصف التسعينيات، وبلغت نسبة التضخم في دول اليورو الـ 19 في يونيو 8.6 في المائة بوتيرة سنوية، بعدما سجلت 7.4 في المائة في أبريل و8.1 في المائة في مايو، وهي أعلى أرقام منذ بدء صدور المؤشر في يناير 1997.
ومع ذلك فإن اضطراب منطقة اليورو بشأن التضخم لا يقف عند هذه الأسباب فقط، بل المشكلة أعمق من ذلك، فهناك تحذيرات صدرت من الحلف الأطلسي بأن الحرب في أوكرانيا قد تستمر أعواما، وأن تراجع الإمدادات قد يبقي أسعار الطاقة في مستوى مرتفع لمدة طويلة تبعا لذلك، وفي حالة كهذه يطالب الموظفون بإلحاح متزايد شركاتهم بتعويضات عن تراجع قدرتهم الشرائية، ما قد يسهم في التضخم، كما أن متوسط معدلات البطالة في سوق العمل ضعيف في مقابل اتجاهات توظيف مرتفعة، وهو ما يقود إلى زيادة في الأجور، وبالتالي زيادة التضخم، كما أن الحالة الاقتصادية تختلف من دولة لأخرى من دول اليورو، وقد يقترن التضخم بعوامل محلية خاصة بكل بلد يكون لها تأثير دائم في التضخم، فالمسألة لا تكمن في معرفة ما إذا كانت الأسعار ستستجيب لتعديلات أسعار الفائدة وتبدأ في الانخفاض، بل في معرفة ما سيحل بالنمو، فالبعض يقارن الوضع بالسبعينيات التي اتسمت بركود تضخمي، فإذا اقترن التضخم المرتفع بنمو ضعيف، فهناك خطر ركود تضخمي. وخلاصة الأمر أن الاقتصادات الأوروبية تشهد حاليا وضعا مخيفا وستكون في حالة غموض في النمو خاصة في ظل تراجع سعر اليورو التاريخي مقابل الدولار.