هل يظل التضخم صادما ومزمنا؟ «2 من 3»

ويعزى اسم أو لقب Team Persistent الذي يطلق على مجموعة مناصرة لفكرة التضخم المزمن، إلى التحذيرات التي أطلقها لاري سامرز، وأوليفييه بلانشار، بشأن التضخم في أوائل 2021 "راجع دراسة Summers 2021". وعارض مراقبون أطلق عليهم لاحقا اسم Team Transitory هذه الفكرة وأشاروا إلى أن التبعات التضخمية لحزم التنشيط الحكومية ستكون مؤقتة أو طفيفة على الأرجح. ومع نهاية العام، تحولت الشواهد إلى صف الفريق الأول في عدد من الدول. فقد استغلت الأسر المدخرات التي قامت بمراكمتها في بداية الجائحة "بما في ذلك التدابير التنشيطية والتحويلات"، ما أدى إلى زيادة مفاجئة في الطلب الكلي وتعاف اقتصادي أقوى من المتوقع. ويتوقف استمرار الطلب الكلي القوي في نهاية المطاف على طبيعة استجابة البنوك المركزية. وتظل هذه المسألة مثار جدال ساخن نعود إليها في قسم لاحق.
رابعا، صدمة عرض العمالة، لا تزال الانقطاعات في أسواق العمل نتيجة الجائحة مستمرة حتى بعد مرور عامين على بدايتها. فلا تزال نسب المشاركة في القوة العاملة دون مستويات ما قبل الجائحة في عدد من الدول. وفي الاقتصادات المتقدمة، شهدت الولايات المتحدة تأثيرا أكبر نسبيا، حيث تراجعت نسب المشاركة بنحو 1.5 في المائة عن مستويات ما قبل الجائحة "انخفاض عدد العمالة بنحو أربعة ملايين تقريبا". هل تستمر هذه الصدمة؟ تختلف الآراء في هذا الشأن. تتناول دراسة Alex Domash and Larry Suumers (2022) التي صدرت أخيرا مجموعة مختلفة من مؤشرات أسواق العمل، وتشير إلى أن "الجزء الأكبر من عجز العمالة سيستمر على الأرجح خلال الفترة المقبلة حتى إن جاءت النتائج متفائلة في أعقاب كوفيد - 19، وسيكون له دور كبير في الضغوط التضخمية التي ستشهدها الولايات المتحدة لفترة مقبلة". وحسب التجارب التاريخية السابقة، لن تستمر هذه الطفرة التضخمية الخارجة عن السيطرة لأكثر من عامين.
خامسا، صدمات إمدادات الطاقة والغذاء الناتجة عن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أدت العملية العسكرية إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، ما أسهم في زيادة معدلات التضخم عالميا. وتعد روسيا وأوكرانيا من مصدري السلع الأولية الرئيسة، وأدت الانقطاعات الناتجة عن الحرب والعقوبات، إلى ارتفاع حاد في الأسعار العالمية، ولا سيما النفط والغاز الطبيعي. وسجلت أسعار الغذاء ارتفاعا مفاجئا أيضا. فقد ارتفعت أسعار القمح إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تمثل أوكرانيا وروسيا 30 في المائة من صادرات القمح العالمية. وقد تؤدي هذه التداعيات إلى استمرار التضخم لفترة أطول من المتوقع. وسيكون التأثير أكبر على الأرجح في الدول منخفضة الدخل واقتصادات الأسواق الصاعدة، حيث تمثل الأغذية والطاقة النسبة الأكبر من الاستهلاك "التي تصل إلى 50 في المائة في إفريقيا".
ونعرض هذه الآثار الخمسة بإيجاز باستخدام منحنيات العرض الكلي والطلب الكلي الكلاسيكية ورغم أن إطار العرض الكلي والطلب الكلي قد يبدو تقليديا، فإنه لا يزال مفيدا في تحليل الوضع الحالي. تأثير دوافع التضخم الخمسة في سوق السلع وسوق الخدمات كل على حدة.
وعلى الرغم من وجود فروق مهمة عبر الدول، ارتفع التضخم في جميع أنحاء العالم تقريبا. وفي الوقت الحالي، تتمثل أوجه عدم اليقين الرئيسة في مدى استمرارية ضيق الأوضاع في أسواق العمل واختناقات سلاسل الإمداد، وطبيعة استجابة البنوك المركزية لمعدلات التضخم المرتفعة.
وبشأن كيفية استجابة البنوك المركزية لهذا الوضع الصعب، كيف ستستجيب البنوك المركزية للتضخم؟ إذا كان من الممكن استخلاص دلالات من الماضي لفهم المستقبل، سيكون من المفيد في البداية دراسة سلوك البنوك المركزية قبل الجائحة. فحتى أواخر السبعينيات، كانت البنوك المركزية أكثر تقبلا للتضخم. لكن الخفض الحاد في معدلات التضخم الذي شهدته المملكة المتحدة في فترة حكم مارجريت تاتشر "قبل أن يحظى بنك إنجلترا باستقلاليته التشغيلية"، الذي قام به الاحتياطي الفيدرالي بقيادة بول فولكر، أدى إلى ثورة في كيفية تعامل البنوك المركزية مع التضخم. ولم يمر وقت طويل قبل أن تتبع بنوك مركزية عديدة هذين المثالين الرائدين، ما أدى إلى تراجع التضخم في أنحاء كثيرة حول العالم بحلول منتصف الثمانينيات. وتطلب ذلك إجراء إصلاحات مؤسسية كبيرة لتحقيق الاستقلالية للبنوك المركزية وقدرة عدد منها على مواجهة الرياح السياسية المعاكسة والفوز باستقلاليتها بحكم الواقع.
علاوة على ذلك، تم إجراء إصلاحات متنوعة أتاحت للبنوك المركزية تعيين الاقتصاديين وغيرهم ممن تمحورت دراستهم حول أسباب التضخم الكبير الذي شهدته حقبة السبعينيات وسبل خفض التضخم، ما يمكن أن يكون له دور في هذه الثورة التي شهدتها البنوك المركزية... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي