اقتصادات مرهقة .. من التالي؟
يطرح كثير من الاقتصاديين والمنظمات الدولية المختصة تساؤلات عميقة عن الأسباب الاقتصادية والمالية التي تسببت في جعل دولة مثل سريلانكا تتحول إلى دولة مضطربة وتنهار فيها منظومة الاستقرار بشكل سريع. ولماذا حدث للاقتصاد هزات قوية أدت إلى سقوط وتصدع أركان الدولة، وتعطلت الحياة بشكل مخيف انعدمت فيه أبسط وسائل الدعم اللوجستي من حركة النقل وقلة الوقود وانقطاع الكهرباء فترات طويلة بعد نفاد العملة الأجنبية للحكومة لاستيراد السلع الأساسية. وهذا الوضع جعل السريلانكيين يعيشون منذ أشهر في ظل نقص الغذاء والدواء وارتفاع معدلات التضخم المتسارع الذي بلغ 55 في المائة في حزيران (يونيو) وحده.
وضغطت الأوضاع الاقتصادية العالمية المتعثرة على الاقتصاد السريلانكي، كما ضغطت على أغلب الاقتصادات. لكن سريلانكا كانت تواجه مصاعب اقتصادية أصلا، بفعل تراجع النمو، إلا أنها كانت تحت السيطرة، سواء من خلال سياسات محلية أحدثت فرقا بصورة أو أخرى، أو عبر قروض متنوعة أسهمت بالتأكيد في دعم هذه السيطرة. لكن الضغوط تواصلت، ولا سيما بعد أن تخلفت البلاد بالفعل عن سداد ديونها التي تبلغ حاليا أكثر من 51 مليار دولار. هذه الأزمة هي الأسوأ على الإطلاق منذ استقلال سريلانكا في 1948، بينما لا توجد مخارج سريعة أو واسعة توفر مرورا ولو مؤقتا للاقتصاد، مع ارتفاع حدة الانعكاسات السلبية لحالة الاقتصاد العالمي عليها، بما في ذلك النقص الهائل في المواد الأساسية، الناتج عن الحرب الدائرة حاليا في أوكرانيا، حتى شمل الأسمدة التي يمكن أن ترتفع مع حجم الإنتاج الزراعي وقت الأزمة.
ويرجع خبراء اقتصاديون تداعيات الأزمة الاقتصادية في سريلانكا إلى الإفراط في الاقتراض من أجل الاستثمار في مشاريع غير استثمارية، لكن الحاجة إلى الإقراض اليوم أصبحت ملحة جدا بهدف توفير المواد الأساسية من طعام ودواء ووقود، وأن الأزمة الاقتصادية طالت جميع قطاعات المجتمع. ويكمن الخطر الذي تواجهه سريلانكا في تجاوز الديون حجم الناتج القومي، وعجز الحكومة عن سداد الديون المستحقة، وصعوبة الوصول إلى قروض جديدة في ظل عدم الاستقرار السياسي. وهنا يستبعد خروج سريلانكا من المأزق الاقتصادي دون إصلاحات إدارية جذرية، وأن العودة إلى الحياة الاقتصادية الطبيعية لن تكون قريبة.
الاقتصاد السريلانكي حقق نموا جيدا في مطلع العقد الماضي بلغ نحو 5 في المائة في 2010، إلا أنه عاد إلى الانخفاض بصور متفاوتة إلى أن سجل في 2020 انخفاضا بلغ 3.57 في المائة تحت الصفر. وفي هذا العام كانت ضربات الأزمة التي جلبتها جائحة كورونا مؤثرة بالطبع، إلا أنها لم تكن الوحيدة في فقدان النمو، ووصوله إلى هذا المستوى. كان اقتصاد البلاد يعاني تقلب النمو بشكل يثير القلق. ففي 2019 حقق ارتفاعا بلغ 2.26 في المائة، منخفضا من ارتفاع سجل 3.27 في المائة في 2018. أي إن ثبات النمو لم يكن حاضرا على الساحة المحلية، مع ارتفاع الضغوط المتصاعدة من جهة زيادة الدين العام، والمخاوف من عدم السداد. علما بأن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد لا يعد منخفضا. فقد سجل في 2020 أكثر قليلا من 80.70 مليار دولار، بينما يصل عدد السكان إلى 22 مليون نسمة.
بالطبع تحتاج البلاد إلى حكومة وحدة وطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وهذا ما يجري ترتيبه حاليا، إلا أن الأزمة ستتفاقم في النهاية، ما لم تتدخل المؤسسات الاقتصادية الدولية، ولا سيما صندوق النقد والبنك الدوليين، بصرف النظر عن شروط تدخلهما، التي عادة ما تكون صعبة. تردي الاقتصاد السريلانكي جاء نتيجة سلسلة من العوامل شكلت أزمة كورونا بتبعاتها الاقتصادية محورا، لكن سبقتها خطوات أقدمت عليها الحكومة، مثل خفض الضرائب الذي كان الأكبر في تاريخ البلاد. وتمثل الضرائب رافدا رئيسا لأي اقتصاد. فمثل هذه الخطوة أسهمت في إفراغ خزينة سريلانكا من النقد الأجنبي، ما تسبب في العجز عن تسديد فواتير الواردات، ولا سيما الأساسية منها مثل الحبوب وزيوت الطعام والوقود، حتى الأسمدة. وقبل استفحال الأزمة، تلقى القطاع السياحي في 2019 ضربة موجعة، نتيجة الهجمات الإرهابية التي أودت بحياة 279 قتيلا، بينهم أجانب. وهذا القطاع، كما في بقية الدول، يمثل موردا أساسيا للعملات الأجنبية.
وتستورد سريلانكا حاليا أكثر من ثلاثة مليارات دولار أكثر مما تصدره كل عام، ما أدى إلى نفاد احتياطي العملات الأجنبية في خزانتها. والديون تتراكم حيث بلغ حجم الأموال المستحقة على كولومبو للصين 10 في المائة من إجمالي الدين الخارجي، وتأتي بعدها اليابان والهند، وعدد آخر من الدول الدائنة. ولا شك أن حل الأزمة الراهنة، لن يبدأ عمليا قبل أن تشكل حكومة الوحدة الوطنية، التي عليها أن تتوصل إلى اتفاقات واضحة مع المؤسسات الدولية الاقتصادية، ليس فقط لجدولة الديون، بل أيضا لتسيير أمور البلاد، في هذه المرحلة التي لم يسبق لها مثيل منذ أكثر من 70 عاما. كما أن الاقتراض لأجل مشاريع لا تعود بموارد للدولة كان خطأ فادحا، وليست هناك استطاعة على تسديد الديون وتم اللجوء إلى الاحتياطي لدفع الديون والمدخرات الأخرى، وعندما نضبت المدخرات واستعملت احتياطات أخرى لشراء المواد الضرورية تحولت إلى تسونامي في وقت قصير، واستمر التجديف في الاتجاه الخطأ والمعاكس حتى الآن.
هذا الوضع المتأزم جدا في بلد كان طبيعيا أن يشهد مستويات نمو جيدة، ضمن مفهوم الدول النامية، ينسحب على عدد آخر من الدول نظرا إلى تشابهها في أوضاعها الاقتصادية خاصة تعثر سداد الديون وضعف عملتها واحتياطياتها للعملات الأجنبية، كما أنها تعاني أزمات ناتجة عن سوء الإدارة، وعوامل دولية خارجة عن إرادتها أيضا. ولا بد من تدارك الخطر بأقرب وقت ممكن، حيث بدأت مؤشرات أولية تظهر بشكل لافت في دول أخرى مثلما ظهرت في سريلانكا بشدة قبل نحو عامين، فالأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة مثلا وضعت دولا متقدمة في دائرة الهموم الاقتصادية المعيشية، فكيف الحال بدول لا تزال تنمو وتسير نحو شكل اقتصادي مستقر مستدام؟