سقوط سريلانكا .. ليس إلا بداية
استيقظ العالم، صباح السبت الماضي، على مشهد فرار الرئيس السريلانكي غوتابايا راجابكسا، من مقره الرسمي في العاصمة كولومبو، وتزامن ذلك مع مشاهد اقتحام المتظاهرين للمجمع الرئاسي، وهو الأمر الذي كان منتظرا حدوثه في أي لحظة من الزمن، بعد أشهر طويلة عانت خلالها سريلانكا نقص المواد الغذائية والوقود وانقطاع الكهرباء، ونفاد العملات الأجنبية لديها، وتعثرها التام عن سداد الديون والفوائد المستحقة تجاه الدائنين، إضافة إلى المواجهة الشرسة ضد الموجة التضخمية المتسارعة في البلاد، التي وصل معدل ارتفاعها إلى 60 في المائة حتى ما قبل المشهد الأخير الذي آلت إليه البلاد، ودخولها في محيط من الفوضى العارمة والشاملة على المستويات كافة.
تشكلت الأزمة الراهنة التي أطاحت بسريلانكا، وانتهت بها إلى إعلانها الإفلاس، نتيجة اعتمادها طوال أعوام مضت في نموها الاقتصادي على الديون والسياسات المالية الشعبوية، حتى ضربت الجائحة العالمية لكوفيد - 19 المسمار الأخير في نعش الاقتصاد السريلانكي، وتسببها في إحداث شلل كامل في قطاع السياحة، الذي كان أكبر القطاعات الاقتصادية المدرة للدولار والعملات الأجنبية على خزينة البلاد، ثم تتابعت فصول الأزمة واتسعت حلقاتها، لتغرق البلاد في موجة تضخمية وصل معدلها بنهاية حزيران (يونيو) الماضي إلى 60 في المائة، وارتفاع تكاليف النقل 128 في المائة، وارتفاع أسعار المواد الغذائية 80 في المائة. وكانت البلاد قد عانت بضراوة أشكال النقص الحاد في النفط الخام والمحاصيل الزراعية، وانكمش الإنتاج الزراعي 6.8 في المائة، نتيجة للنقص الحاد في الأسمدة الكيماوية، وجاء الانخفاض أشد وطأة مع الانخفاض الحاد في إنتاج الأرز، الذي يمثل المحصول الغذائي الأساس في سريلانكا.
هل سيقف المشهد الاقتصادي العالمي عند حدود الحالة السريلانكية؟ وفقا للمؤشرات الاقتصادية والمالية الراهنة، ولما سبق أن تم وضعه كاحتمالات سابقة من عديد من الهيئات والمنظمات الدولية، حتى من قبل البنوك العالمية، التي ذهبت إلى ارتفاع المخاطر السياسية والاقتصادية والمالية على عديد من الدول الفقيرة والأدنى دخلا حول العالم، نتيجة للأزمات المتتالية على العالم منذ الجائحة العالمية لكوفيد - 19، وما ترتب عليها من تداعيات جسيمة على الاقتصاد العالمي عموما، وعلى الاقتصادات الأضعف نموا والأقل دخلا على وجه الخصوص، سرعان ما اصطدمت بتداعيات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وما ترتب عليها من عقوبات واضطرابات اجتاحت أسواق الطاقة والغذاء، وتسببها في تصاعد معدلات التضخم إلى أعلى مستوياته في منظور نصف قرن مضى من الزمن، ولتزداد الضغوط بوتيرة أسرع مع اندفاع البنوك المركزية العالمية بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي نحو رفع معدلات الفائدة، وعدا ما تسببت فيه التغيرات الجذرية للسياسات النقدية حول العالم من اضطرابات حادة للأسواق، فقط المنطقة غير المشاهدة لآثار تلك السياسات وما سبقها من اضطرابات ضربت الاقتصاد العالمي، ما يتمثل في المناطق الأضعف نموا من العالم، ويقصد بها الدول الفقيرة والأدنى دخلا، وهي أيضا الدول الأعلى ديونا بالنسبة إلى اقتصاداتها الهشة.
إنها دائرة أوسع وأكبر من مجرد دولة وحيدة كسريلانكا، التي شهد العالم سقوطها في مستنقع الفوضى والإفلاس أخيرا! وأمثالها من الاقتصادات والدول تجده منتشرا في أنحاء من آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية، بل حتى في أوروبا التي تعاني خلال الفترة الراهنة أكثر من غيرها من ويلات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومن العقوبات المستمرة والواسعة على الاتحاد الروسي التي يقود زمامها الولايات المتحدة، في الوقت ذاته الذي تأكد أن أكبر من يتحمل النتائج العكسية لتلك العقوبات هي أوروبا عموما، ودول اليورو على وجه الخصوص!
وبتدقيق النظر في التطورات الاقتصادية المعاكسة التي تجتاح عديدا من الدول الأدنى دخلا في مختلف مناطق العالم، وما تواجهه دولها ومجتمعاتها على حد سواء من ارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع فوائد سداد ديونها الخارجية، وتراجع معدلات نموها الاقتصادي، إضافة إلى ما أصبح يواجهه الاقتصاد العالمي من ركود محتمل بدرجة كبيرة خلال ما تبقى من العام الجاري، وخلال العام المقبل، وفقا لتوقعات عديد من الهيئات والمنظمات والبنوك الدولية، فإن كل ذلك يؤكد أن الأصعب عالميا ما زال في الطريق، وأن ما وقعت فيه سريلانكا ليس إلا بداية.
السؤال القائم اليوم، هل بالإمكان إنقاذ ما بقي ممكنا إنقاذه قبل أن تتفاقم المخاطر إلى خارج حدود سريلانكا؟ وقبل أن تمتد إلى البنوك الدولية المقرضة، وما سيتسبب فيه انكشافها على الإفلاس السريلانكي من أزمات في دولها؟ وقبل أن تتسبب المقدمات نفسها لسقوط سريلانكا المشاهدة الآن في أكثر من بلد فقير في مختلف بقاع العالم، بتكرار الأزمة نفسها واتساع رقعتها؟ وهل العالم اليوم قادر على تلك التدخلات والإنقاذ، في الوقت ذاته الذي يواجه مخاطر العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والعقوبات المترتبة عليها، إضافة إلى سلسلة التحديات الجسيمة التي يواجهها الاقتصاد العالمي خلال الفترة الراهنة؟ وهل ستتكرر وتيرة الحلول السابقة، بضخ مزيد من القروض الدولية لمصلحة تلك الدول بمعدلات فائدة أعلى من القروض القائمة اليوم؟ وهو الحل التقليدي الذي طالما لجأ إليه صندوق النقد الدولي، مقترنا بمزيد من تشديد السياسات الاقتصادية والمالية على مجتمعات الدول المقترضة، وللمرء أن يتخيل وقع تلك السياسات المؤلمة "كرفع الضرائب، وخفض الدعم" على مجتمعات هي في الأصل تئن وتتضجر من واقعها الراهن، وما النتائج التي ستؤول بها على مستوى الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الدول المقترضة، والملزمة باتباع شروط وقيود صندوق النقد الدولي؟ إنها ولا شك أشبه بالهروب من جحيم اقتصادي إلى جحيم آخر أشد ألما، ودافعا أكبر لحدوث مزيد من الاضطرابات والفوضى في تلك الدول الفقيرة، وكأنما تحقق في تلك الدول قول الشاعر العباسي ابن نباتة السعدي:
«ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والداء واحد».