الموجة تطول والحلول محدودة

كثر الحديث خلال الفترة الأخيرة خاصة من الخبراء الاقتصاديين والمسؤولين المعنيين بالشؤون المالية للدول عن أزمة التضخم العالمية، وارتفاع معدلاته التصاعدية، حيث بلغ 6.2 في المائة 2022، بعد أن كان 4.4 في المائة في 2021، و2.8 في المائة فقط في 2020، ومن هذه الأرقام نلاحظ الوتيرة المتوالية لارتفاع معدلات التضخم. ومن هنا طرحت تساؤلات عن التضخم وهل هو جائحة، أو أزمة عابرة؟ وهل ضبط الأوضاع المالية يمكن أن يخفف آثار وحدة أزمة التضخم التي أصبحت أمرا حتميا سيواجهه الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي.
تشير تقارير عالمية إلى أن التقشف النقدي ضروري أيضا، خاصة في ظل وجود فائض نقدي عالمي يراوح بين 15 و20 في المائة، كما أن التضخم المرتفع لا يزال مصدر إزعاج، ومن الضروري أن تجد حكومات العالم طرقا للتعامل مع التضخم، وإلا فإن الاقتصاد العالمي سيكون في مواجهة حتمية مع مرحلة الركود خلال 2023 أو 2024. ويجمع المسؤولون الأمريكيون بمن فيهم الرئيس جو بايدن على أن موجة التضخم التي تشهدها البلاد ستطول، ويبدو أن هذه الموجة ستتواصل على الساحة العالمية أيضا بعد أن فشلت حتى الآن كل المحاولات للوقوف في وجهها وعنفوانها، أو التخفيف من آثارها الاقتصادية والاجتماعية في آن معا.
وفي تطور أخير لافت بهذه الصدد، اعترف مجلس الاحتياطي الفيدرالي بأن التضخم يعد قضية معقدة وصعبة، وسيستمر في التصاعد والارتفاع دون توقف، بل ساءت أوضاعه، وذلك بوصوله في فترة زمنية قصيرة إلى أعلى مستوى له منذ أكثر من أربعة عقود. والخوف حاليا لا ينحصر في ارتفاع أسعار المستهلكين على الساحة الأمريكية فحسب، بل يشمل أيضا المدى الذي يمكن أن يواصل فيه الارتفاع تزامنا مع وقت تواجه فيه الإدارة الأمريكية الانتخابات النصفية التي عادة لا تصب في مصلحة ساكني البيت الأبيض، بصرف النظر عن الحزب الذي أوصلهم إليه.
المعضلة تبقى كما هي، مواصلة رفع الفائدة بصورة تدريجية في الفترة المقبلة، على أمل يبدو بعيدا بالطبع أن تعود مستويات التضخم إلى 2 في المائة، وهو الحد الأعلى الذي يضعه في الواقع كل الحكومات في العالم الغربي. الجانب الآخر من هذه المعضلة يبقى دائما الخوف على وتيرة النمو، والخوف الأكبر يتعلق بدخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود، بينما لم يستكمل عملية خروجه منها في أعقاب ما فرضته جائحة كورونا على الساحة الاقتصادية.
صحيح أن الركود في الولايات المتحدة ليس حتميا، لكن الصحيح أيضا أن مؤشرات عديدة تدل على أنه ربما يأتي قريبا، بما في ذلك توقعات أصحاب الأعمال الأمريكية الذين يواجهون سلسلة من المشكلات بسبب اضطرابات سلاسل التوريد، وارتفاع الأسعار، وزيادة تكاليف القروض في آن معا. أن يتمكن "الاحتياطي الفيدرالي" من العودة بالتضخم إلى المستوى المحدد له، هذا أمر صار صعبا، ليس الآن، لكن منذ بداية العام الجاري، فالتضخم يبلغ حاليا نحو 8.6 في المائة، وبات يقترب من المستويات الأوروبية. وقبل أسابيع خرجت تصريحات رسمية رجحت أن يكون الاقتصاد الأوروبي أسوأ حالا من الأمريكي. وفي كل الأحوال، يبدو واضحا أن آلية رفع الفائدة لكبح جماح التضخم لم تعد ناجعة في هذا الوقت بالذات، إلا إذا أقدم "الفيدرالي" على رفع أكبر في كل مرة يغير فيها مستويات الفائدة، وفي الواقع هذه الآلية لم تعد ناجعة حتى في الاقتصادات المتقدمة، التي تعاني هي الأخرى آثار التضخم، والفائدة المرتفعة، مع مخاوف من ركود قد يحدث في أي لحظة.
من هنا يمكن النظر إلى قلق المشرعين الأمريكيين، فهم لا يريدون توقف النمو الاقتصادي، بينما يحاربون موجة تضخمية يمكن أن توصف بالتاريخية من حيث عمقها وأثرها ومدتها، كما أنهم حريصون على مواصلة تهدئة الحراك الاقتصادي المحلي، إلا أن ضمانات عدم دخول أكبر اقتصاد في العالم حالة من الركود لم تعد متوافرة، في ظل الأوضاع الراهنة المتغيرة نحو مزيد من التشديد للسياسة النقدية، فأي نمو يتطلب مرونة في هذه السياسة، كما كان حاصلا قبل أن تنتشر موجة التضخم على مستوى العالم تقريبا. لكن يبدو أن الاقتصادات المتقدمة ككل لا يمكنها أن تحافظ على هذه المرونة في وقت بدأت بالفعل تقديم شرائح إعاشة على مواطنيها التي عادة ما توزع في أوقات الحروب. التضخم يسوء بالفعل، والمشهد العام ليس واضحا فيما يرتبط بالنمو الحالي، والركود الذي يمكن أن يصل إلى الساحة حتى قبل نهاية العام الجاري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي