في حضرة سقراط .. التفلسف بطعم القهوة
يأخذك كتاب "مقهى سقراط: نكهة مختلفة للفلسفة" للكاتب الأمريكي كريستوفر فيليبس، الذي نقله، بعد اقتراح من المؤلف، إلى اللغة العربية، بأسلوب سلس ودقة بالغة، الدكتور هادي آل شيخ ناصر، في أولى ترجماته، والصادر عن دار أثر للنشر والتوزيع "2021"، في رحلة فلسفية مكثفة ومرحة، تمزج بين بداهة الأسئلة، حد السذاجة أحيانا، وروح التفلسف وفق منهج "المايوتيقا"، القائم على مبدأ "اعرف نفسك بنفسك"، ودعابة الجلسات الحوارية، ومتعة النقاش بين رواد المقهى.
يحكي الكتاب تجربة كريستوفر فيليبس، في سعيه نحو إشاعة المنهج السقراطي في التفكير بين الناس، بسرد تفاصيل لقاءات المقاهي الفلسفية التي نظمها في أماكن مختلفة "المقهى، الكنيسة، السجن، المشفى، دار الرعاية، المدرسة..." في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، مع أناس من مختلف الفئات العمرية "رشداء، أطفال، شيوخ، سجناء، مرضى، متدينون..."، وفاء للطريقة السقراطية التي يعدها "وسيلة للبحث عن الحقائق باستخدام نورك الخاص. إنها نظام وروح ونوع من البحث الفلسفي وأسلوب فكري مجتمعة في وقت واحد".
يعترف "الفيلسوف"، رغم تحفظه على استحقاق اللقب في إحدى الجلسات، بأن التجربة موجهة للذات قبل الآخرين. في مغامرة التساؤل في كل لقاء يكتشف الرجل نفسه، ويزداد اقتناعا بمقولة الحكيم سقراط بأن الشيء الوحيد الذي كان يعرفه دون شك هو أنه لا يعرف شيئا دون شك. "أنا لا أقيم مقاهي سقراط لأعلم الآخرين، بل لأتعلم منهم. في الحقيقة كنت دائما أتعلم من المشاركين أكثر مما يمكن أن يتعلموا مني. كنت أستفيد من التعرف على وجهات نظر المشاركين في كل اجتماع".
جلسة تلو أخرى، يكتشف المؤلف وقع هذه المغامرة الفريدة على نفسه، بعد نجاحه في إخراج الفلسفة من دائرة الجلسات النقاشية التي تؤطرها قواعد الأستاذية، نحو فلسفة تكون الأسئلة فيها إجابات، فهذا النوع من الفلسفة "التساؤلية"، في كثير من الأحيان، تعلمنا عن أنفسنا والعالم من حولنا أكثر مما تعلمنا إياه الإجابات. هكذا يجد نفسه بعد كل جلسة محاصرا بمتوالية من الأسئلة، "أنا متلهف لأكون وحدي مع أفكاري، لأتوجه إلى كثير من الأسئلة في ذهني التي تولدت خلال حوار تلك الليلة".
بعيدا عن القيود الأكاديمية وضوابط المنهج العلمي وأولويات الاستشكال التي تؤطر فعل التفلسف، وتعاكس جوهر رسالة الفلسفة، كما جاء في الكتاب "مع أني كنت انتقد كثيرا من جوانب البرج العاجي، في الفلسفة الأكاديمية تحديدا، إلا أنني رغم ذلك شعرت أن لها مكانها الشرعي ورسالتها النبيلة. وكما كتب ماثيو ليبمين "برامجهم العتيقة، بيروقراطيتهم المربكة، ومعلميهم الذين يجهلون أصول التربية". اختار فيليبس صياغة عناوين فصول الكتاب الخمسة في قالب استفهامي، "ما هو السؤال؟"، "أين أنا؟"، "إلى من تحتاج؟"، "ماذا يعني كل ذلك؟"، "لماذا نسأل لماذا؟".
تنتظم داخل هذه الفصول مباحث صغيرة، تتضمن أسئلة متنوعة عن موضوعات شتى، كانت محاولة الإجابة عنها، مدار جلسات المقهى؛ من طينة، ما هي الأسئلة العميقة؟ ولماذا هي عميقة؟ ولماذا السؤال؟ كيف يصبح المسكن بيتا؟ ما هو البيت الحقيقي؟ ما الفلسفة؟ ما تعني الحكمة؟ من هو الصديق؟ ما هو الصمت؟ ويحدث أحيانا أن يدفع النقاش أتباع سقراط نحو توليد أسئلة تركيبة، من قبيل، كيف لنا أن نفهم من نحن إذا لم نكن نحاول أن نفهم الكون من حولنا والكون في داخلنا؟ وهل من الممكن فعلا أن نكون أصدقاء من دون قيد أو شرط؟ هل من الممكن ألا يكون لدينا أي تطلعات؟
ترمي فكرة مقهى سقراط إلى إعادة الفلسفة إلى العامة من الناس، رهان يبقى عصي على التحقق، بحسب كريستوفر فيليبس، ما دامت مهارة طرح الأسئلة مفتقدة في المجتمع. فالتساؤل أساس التفلسف "نحن الفلاسفة نفكر في الأسئلة، لكي نتمكن من التفكير في الإجابات، لكي نتمكن من التفكير في مزيد من الأسئلة".
لأجل ذلك، يصر على ضرورة امتلاك مهارة فن التساؤل، "...عندما تصبح أكثر مهارة في فن السؤال، ستكتشف طرقا جديدة لطرح الأسئلة التي طالما حيرتك وأربكتك كثيرا. وبهذا ستصل إلى إجابات جديدة، بل ومثمرة أكثر. وهذه الإجابات ستولد مزيدا من الأسئلة، وستستمر العجلة في الدوران، لكن ليس في حلقة مفرغة بل في شكل لولبي لا يتوقف عن التصاعد والاتساع، تمنحك باستمرار أفقا حديثا ومتجددا في نظرتك إلى الحياة".
تحضر "القداس السقراطي" مختلف شرائح المجتمع الأمريكي، واستثناء يعمد المؤلف إلى تنظيم جلسات خاصة بفئات معنية، دون الإخلال بالقواعد التي تؤطر فكرة المقهى "طرح الحضور للأسئلة، اختيار سؤال اللقاء، فتح باب النقاش..."، لاكتشاف الفلسفة بأعين هذه الشرائح، فلا أحد مثلا يستفسر، ولا أحد يتساءل، ولا أحد يتفحص مثلما يفعل الأطفال. "ليس ذلك لأن الأطفال يحبون الأسئلة، بل لأنهم يعيشون الأسئلة".
لا يقل نقاش الشيوخ، في جلسة مقهى سقراط، عن نقاش الأطفال، فالكهول، من منظور الكاتب، متأملون بدرجة غير عادية، لكن قلة من يريد أن يتأمل معهم. "يميل الشيوخ إلى التصريح بالحقائق كما هي، لكن قلائل من يريدون أن يسمعوا الحقائق كما هي. كلما كبروا في السن ازدادوا براءة وضعفا وعمقا في التفكير، وصاروا أكثر شبها بالأطفال".
يكتشف القارئ أن عشاق "الورد السقراطي" في جلساتهم في المقهى، أوفياء غاية الوفاء للرغبة في التعلم، وهذه الأخيرة "في حد ذاتها تعني أنك غير راض بما لديك من قناعات". وخير دليل على تجذر تلك الرغبة في نفوس رواد المقهى أنها امتدت لتشمل حياة سقراط، فلم يتردد أحدهم من التعليق على محاكمة الرجل قائلا، "لو لم يصدروا ذلك الحكم الشرير والأخرق بالإعدام على سقراط، فإني أراهن أن حكمته وشجاعته الأخلاقية لم تكن ستبرز بهذا الوضوح. أراهن أنها لم تكن لتبقى صامدة إلى هذا اليوم، ولم تكن ستصبح مصدر إلهام منذ ذلك الوقت".
يختم القارئ الكتاب وفي نفسه أمنية أن يحضر تجربة مقهى سقراط واقعيا، ليكتشف روعة الأسئلة البسيطة التي تقذفك بعيدا في غياهب الفلسفة، ويعيش جلسات يحمل إليها أسئلة ويخرج منها ركام آخر أكبر، لكنها أسئلة مستحبة لأنها تبقى من الصنف الذي يجلب الراحة والطمأنينة والسعادة إلى النفس والعقل معا.