توليفة مقلقة لمؤشرات الاقتصاد الأمريكي .. حصرها في التضخم والنمو تقزيم للأزمة
هل يزداد الاقتصاد الأمريكي قوة أم ضعفا؟ ربما يكون هذا هو السؤال الأكثر أهمية وشيوعا ليس فقط بالنسبة للاقتصاد الأمريكي، لكن لأي اقتصاد في العالم، إلا أن السؤال يحظى بأهمية خاصة عندما يتعلق الأمر باقتصاد الولايات المتحدة.
وهناك كثير من الأسباب تدعو غير الأمريكيين إلى التعرف على إجابة هذا السؤال، فالاقتصاد الأمريكي لا يزال الاقتصاد رقم واحد في العالم، ومن ثم تنامي قوته أو بروز مظاهر الشيخوخة فيه سيؤثر حتما في الجميع بلا استثناء، كما أن الدولار لا يعد عملة أمريكية محلية، بل عملة الاقتصاد الدولي ابتداء من التجارة الدولية التي تقيم أغلب ما يتداول فيها بالدولار، انتهاء باحتياطات البنوك المركزية وجلها بالدولار.
ومن ثم، فإن ضعف أو قوة الاقتصاد الأمريكي ستعني كثيرا بالنسبة لكل دولة أو مؤسسة أو فرد يستخدم الدولار، وباختصار الاقتصاد الأمريكي يمثل ربع اقتصاد الكرة الأرضية حاليا، وعلى الرغم من أنه تراجع من نسبة 40 في المائة 1960، إلى نحو 25 في المائة من الاقتصاد العالمي حاليا، فإن نسبة الربع لا يمكن الاستهانة بها على أي حال من الأحوال، تلك النسبة تسمح للابتكارات الأمريكية في مجال التكنولوجيا بأن تكون رائدة على المستوى العالمي، ومع الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في تشكيل الاقتصاد والحياة الإنسانية، فإن ما يحدث للاقتصاد الأمريكي لا شك أمر يهم الجميع.
في الوقت الراهن تهيمن قضية التضخم والمؤشرات المتزايدة على توجه الاقتصاد الأمريكي إلى الركود، على الجدل بشأن وضع الاقتصاد، فالتضخم المرتفع الذي يؤثر في مستويات المعيشة سلبا، والركود الذي يقلص من فرص التوظيف توليفة لا شك مقلقة للجميع داخل الولايات المتحدة وأيضا خارجها، فطبيعة التدابير التي تتخذها الولايات المتحدة لمواجهة هذا التحدي، ستمتد تداعياتها إلى خارج الأراضي الأمريكية، وهو ما حدث بالفعل عندما رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة أخيرا، وتبعه في ذلك كثير من البنوك المركزية.
لكن حصر مشكلات الاقتصاد الأمريكي في قضية التضخم والركود الحاليين، يبدو من وجهة نظر البعض تقزيما لمشكلات الاقتصاد الأمريكي، فتراجع مساهمة أمريكا في الناتج المحلي الإجمالي العالمي ملحوظ منذ عقود، وإن كان تراجعا بطيئا ومتفاوتا مع وجود قمم وقيعان طوال الوقت.
وقال لـ"الاقتصاد" البروفيسور مريك تومي أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة بلفاست، "بين 1965 و1980 انخفضت حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي بنحو 13 في المائة بسبب الركود التضخمي، لكن بحلول 1985 ارتفعت حصة الولايات المتحدة في الاقتصاد الدولي إلى 30 في المائة، لتعاود الانخفاض لاحقا بنسبة 11 في المائة ثم تعاود الارتفاع مجددا إلى 30 في المائة بحلول 2000".
وأضاف "لكن المتغير الذي برز منذ بدايات القرن الـ21 يتمثل في استمرار النمو في عديد من الأسواق الناشئة بوتيرة سريعة، وهذا أدى إلى انخفاض حصة الاقتصاد الأمريكي مجددا، فمثلا حصة الصين نمت من 4 في المائة 1960 إلى 16.3 في المائة 2019، خلال الفترة نفسها شهدت دول مثل كوريا الجنوبية، البرازيل، الهند، المكسيك، وإندونيسيا ظهورا بارزا على ساحة الاقتصاد العالمي".
تلك التحديات لا تنفي أن عديداً من محركات الاقتصاد وأسواق المال موجودة بقوة في الاقتصاد الأمريكي بصورة تجعله قادرا على النهوض من عثراته واستعادة بريقه وقوته. فأحد أبرز نقاط القوة في الاقتصاد الأمريكي تتمثل في ثقة المستهلك، ويغذي الإنفاق الاستهلاكي الاقتصادات القائمة على الخدمات مثل الولايات المتحدة، حيث يمثل قطاع الخدمات 77 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويستند المقياس الكمي الرئيس لثقة المستهلك في الولايات المتحدة على مسح شهري لـ5000 أسرة يتم إجراؤه بواسطة كونفرنس بورد وهي جمعية بحثية مستقلة.
في الوقت الراهن ينخفض المؤشر إلى أدني مستوى له منذ شباط (فبراير) 2021 مع استمرار التوقعات بمزيد من الانخفاض في الفترة المقبلة، مع هذا يرى كثير من الخبراء أن هذا الانخفاض الحالي مؤقت ويرتبط أكثر بالقلق المتنامي من ارتفاع الأسعار، وأنه بمجرد السيطرة على التضخم فإن مؤشر ثقة المستهلك سيعود الارتفاع ليجذب معه الاقتصاد الأمريكي للأمام.
لكن ما يقلق الخبيرة المصرفية مونيكا آرثر، أن "ثقة المستهلك الأمريكي ربما لن تمثل نقطة ارتكاز لقوة الاقتصاد الأمريكي في المدى الطويل، إذا استمرت قضية الديون الأمريكية في التفاقم ودون علاج حقيقي، وفي الواقع فإن أغلب الخبراء يلقون بالمسؤولية في تراجع ثقل الاقتصاد الأمريكي على المستوى الدولي خلال العقود الماضية لتنامي الديون الأمريكية، فتور الأموال يوجد شعورا اقتصاديا زائفا لدى المستهلك بقدرته على تمويل نمط استهلاكي ومعيشي مرتفع لا يعكس واقعه الاقتصادي الحقيقي".
وأضافت لـ"الاقتصادية" قائلة "مستويات الديون العامة والخاصة مرتفعة للغاية في الولايات المتحدة، والأخطر أنها آخذة في الارتفاع، وعلى الرغم من أن تلك الظاهرة ذات طبيعة عالمية، لكنها في الولايات المتحدة تتمثل الخطورة في أن ارتفاع الدين يرتبط بانخفاض النمو الاقتصادي ومعدلات تضخم مرتفعة، وحتى عندما تؤدي الزيادات المتوقعة في الإنفاق المالي إلى تعزيز النمو في المدى القصير والمتوسط، فإن مستويات الديون المرتفعة ستؤدي إلى تقليص النمو على المدى الطويل"
وبالنسبة إلى حجم الاقتصاد الأمريكي، أصبحت الديون الفيدرالية الأمريكية الآن أكبر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن المتوقع أن يصل الدين الأمريكي إلى أكثر من 120 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2040، بل سيواصل النمو بعد ذلك.
وفي هذا السياق، ذكر أم. بلاك سميث الاستشاري السابق في البنك الدولي، أن "الزيادات الضريبية أو تخفيضات الإنفاق ستكون هي الحل النهائي للاقتصاد الأمريكي لمواجهة خطر المديونية، لأن الديون الفيدرالية بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لا يمكن أن تزيد إلى أجل غير مسمى".
لكنه يشير إلى جانب مهم يرتبط بقضية الديون الذي يمثل من وجهة نظره العامل الرئيس في تآكل قدرة الاقتصاد الأمريكي على الأمد الطويل.
وأوضح لـ"الاقتصادية" أن "الشيخوخة السكانية في الولايات المتحدة تلقي على الحكومة بإعباء مالية متزايدة، والعام الماضي صرحت وزيرة التجارة الأمريكية أن شيخوخة السكان ستضرب الاقتصاد الأمريكي كشخص ألقي عليه طن من الأحجار، فمواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية باتوا كبارا في السن، وسط عجز خطير في إمكانات الرعاية الصحية، فنحو 16.5 في المائة من سكان الولايات المتحدة أي نحو 54 مليونا تجاوزوا سن 65 عاما، وبحلول 2030 سيرتفع العدد إلى 74 مليونا".
ويرى الخبراء أن ارتفاع الخصوبة والهجرة ساعدا في درء شيخوخة السكان عن الاقتصاد الأمريكي، وظلت البلاد أصغر سنا نتيجة لذلك، لكن هذا الاتجاه يتغير، فالأمريكيون ينجبون أعدادا أقل من الأطفال الآن، ولم تتكرر طفرة المواليد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهناك اتجاهات سياسية معادية للهجرة بشدة، ومن ثم فإن قلة الأطفال إلى جانب زيادة متوسط العمر بشكل كبير، يعني أن أمريكا بلد يتقدم في العمر ويشيخ ويشيخ معه اقتصاده.
لكن لا يمكن أن تحل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي تلك المعضلة الأمريكية، فتشيخ أمريكا ديمجرافيا، لكنها تظل قادرة على الإنتاج بمعدلات مرتفعة بفضل اعتمادها على التكنولوجيا ومن ثم تحافظ على موقعها المميز في الاقتصاد العالمي؟
وبينت لـ"الاقتصادية" الدكتورة شيلي جاكسون الأستاذة في جامعة كامبريدج في قسم الاقتصاد الحديث، أنه "لا يمكن الجزم بشكل قاطع في هذا الشأن. نظريا يمكن للتكنولوجيا حل عديد من المشكلات، لكن أيضا للتكنولوجيا تكلفة مالية يجب أخذها في الحسبان، فالتكنولوجيا لا تأتي مجانا، كما أن الحديث عنها على نطاق واسع، حيث نتحدث عنها هنا كنمط حياة يتطلب استثمارات مالية ضخمة في مجال البنية الأساسية".
واستطردت قائلة "مشكلة الديون تتفاقم في الولايات المتحدة وعملية الإحلال التكنولوجي مكلفة للغاية، بما يعنيه ذلك من مزيد من عمليات الاقتراض المالي واسعة النطاق والمكلفة، فالأمر يتوقف على قدرة صانع القرار الاقتصادي على الموازنة بين التكلفة والعائد بين اقتناء التكنولوجية لتعويض الشيخوخة الديمجرافية المتزايدة، وبين التكلفة الاقتصادية للحصول على التكنولوجيا وقدرة الاقتصاد الوطني على تحملها.