رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


علاقات لا أكثر

"مجرد علاقات"، تقال أحيانا استنقاصا عند بلوغ أحدهم مكانا معينا أو تقدمه في مسيرته وتطوره مهنيا وعمليا. وسواء قال صاحب التعليق "بينهم معرفة" أو "فلان يعرف كيف يدير مصالحه" أو كان أكثر مباشرة وصراحة وقال "لديه واسطة"، فإن المغزى واحد، تقال مثل هذه العبارات تقليلا من أحقية فلان هذا في حق أو منصب أو جائزة أو تقدير حصل عليه، وإنه يفتقد إلى ما يجعله يحوز الأهلية مثل القدرة والكفاءة والتأهيل وغير كذلك. المشكلة في هذه العبارات التي لا تخلو أحاديثنا منها ليست أنها ظالمة أو مجحفة أو غير مؤكدة أو تحتاج إلى دليل فقط، لا، المشكلة أنها تضع غشاوة بيننا وبين الواقع، بين الظن والحقيقة، بين ما نعتقده وما يجب أن نعتقده.
كل أمر قابل للتطرف، وكل الأمور لها نقاط توازن خاصة بها، الخروج عن التوازن تحد تقليدي. عند التوصيف تستخدم المبالغة لتجسيد الفكرة، المبالغة رمزية نستخدمها بكرم مبالغ فيه. وبين التطرف والتوازن في الاعتقاد والتصرف، وبين الشرح والتوصيف يحدث التداخل الذي يصنع الحواجز. من المهم أن نرفع المعيار الأخلاقي بشكل مستمر، لكن رفعه لا يعني المبالغة والتصوير السلبي وجلد الذات. رفع المعيار الأخلاقي لا يعني قتل المخاطرة والمبادرة والجرأة، رفعه لا يعني التفادي التام والابتعاد الكامل، فهذا سرعان ما ينقلب إلى صمت وجمود وانزواء.
تخيل معي شابا في بداية حياته بدأ في الانطلاق بحثا عن التجربة والاستكشاف وصنع قصته الخاصة به. ثم يسمع في كل مجلس وقناة أن فلانا وصل لأن لديه واسطة وهو يعرف كيف يستفيد من واسطته، وفلان نجح لأنه منافق ويجيد الكلام بالطريقة التي تخدمه، وفلان "مصلحجي" لأنه يعرف كيف يربط علاقته بمنفعته، وتستمر هذه النغمة خلال مراحل حياته المهنية والاجتماعية المبكرة. ما يحدث هنا فعليا عملية مباركة للجمود وعدم التفاعل، ما يحدث هنا هو تدمير أهم مرحلة في بناء العلاقات الشخصية بسبب محاذير مبالغ فيها أو غير دقيقة أو مبنية على أحكام شخصية لا أساس لها من الصحة.
وهذه هي المشكلة تحديدا، العلاقات الشخصية وتسخيرها للمصلحة أمر طبيعي، هناك محاذير ينبغي الابتعاد عنها، لأنها تكون غير عادلة للآخرين أو تنطوي على تقديم مصلحة شخص غير مستحق على شخص مستحق. لكن الحديث عن قصص التجاوز دون موضوعية أو المبالغة في التحذير لن يجعل الشخص يجيد التفريق بين هذه الحالات، على الأرجح سيتفادى صنع العلاقات بالكامل ويجد مبررا جيدا للكسل والخمول، ثم يعتاد على ذلك. وبعد أعوام عندما يفشل أو يتعثر لأنه لم يعمل بالشكل المطلوب سيكون ممن يقول، وليس ممن يسمعون فقط، قصص الواسطات والعلاقات السلبية تشعره بالارتياح وتبرر له فشله بشكل منطقي جدا. وهذه دورة loop خطيرة جدا.
لا يمكن تحديد نسبة مئوية لأهمية بناء العلاقات والمهارات الناعمة عموما على المستوى الشخصي، فهي تختلف من وظيفة لأخرى ومن دور لآخر. موظف المبيعات يحتاج إليها بقدر أكثر من موظف المحاسبة، وموظف المحاسبة يحتاج إليها أكثر من موظف وحدة التصنيع، وموظف التصنيع حتما يحتاج إليها أكثر من عالم منعزل في معمله. المسألة نسبية، لكن من الأكيد أنها مهمة بأهمية المهارات الفنية والمعرفة المختصة، والشخصية الناجحة تحتاج إلى أن تمتلك مزيجا جيدا من الاثنين. وأما المحاذير فالتعامل معها يتطلب نزاهة مبنية على المعرفة، والابتعاد عن الأحكام غير الموضوعية والعبارات التي لا تستند إلى بينة وليست قابلة للتحقق. الانجراف والانحراف بناء على المبالغة في قراءة الواقع يشكلان خسارة عظيمة، لأنهما يدمران الفرصة التي في اليد ويجعلان فرص المستقبل أبعد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي