الورق .. قصة الذاكرة الثانية للإنسان
يحيط بنا الورق من كل جانب، فلا تخلو تفاصيل الحياة اليومية من حضوره، حتى قيل إن الحياة المعاصرة "حياة من ورق"، فالصحيفة التي تقرأها ورقية، وثمن قهوة الصباح نقود من ورق، وزيارة الطبيب تلازمها وصفة طبية محررة على ورق، ومستندات الهوية الفردية ورقية، وحق الاقتراع يمارس بواسطة ورقة، وحتى الصورة الشخصية عبارة عن ورقة. لا مبالغة في القول، إن الورق يحاصرنا، فتذكرة السفر والخريطة والمناديل الصحية وعلب الإرساليات والأكياس.. كلها أشياء من ورق، تسهل إيقاع الحياة المعاصرة.
ارتبط الورق في الذاكرة بعالم الكتابة والتأليف، فهذا الابتكار مثل ثورة كبرى في تاريخ التطور البشري، لا تقل أهمية عن اكتشاف النار واختراع الكتابة، فقد مكن الإنسان من إثبات وتخليد مسيرة البشرية المهددة دوما بالزوال، حتى استحق، عن جدارة، لقب "الذاكرة الثانية للإنسان"، بحفظ ما تراكم من معارف وخبرات بشرية عبر العصور، في بطون الكتب والمصنفات، ما يجنبها آفات النسيان، ويقيها من خطر الاندثار.
استعانت حضارات ما بين النهرين ومصر والصين بعدد من الحوامل للكتابة، قبل ابتكار الورق، فكان التدوين في البداية على ألواح طينية وحجرية، واهتدت في وقت لاحق إلى استعمال لحاء نبات البردي Papyrus وأشرطة الخيزران والأقمشة الحريرية والرق.. ومع طول الاستخدام تبين أن فعالية هذه الحوامل محدودة، فهي سريعة التلف والهلاك، علاوة على قابليتها للتحريف والتزوير، وتكلفتها المرتفعة حتى تكون صالحة للكتابة، فتحرير نسخة واحدة من الكتاب المقدس مثلا، يتطلب ذبح ما يربو على مائة رأس من الماشية.
تجمع المراجع التاريخية على أن الصيني تساي لون أول من نجح في صنع عجينة الورق، في 123 قبل الميلاد، مستخدما مزيجا من ألياف شجر التوت ونبات القنب والبامبو. ويعتقد فصيل من المؤرخين أن ذاك العام يؤرخ لحدث اكتشاف التركيبة المثالية لصناعة الورق، لا بداية استخدام الورق، التي تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، نحو 2700.
احتكر الصينيون هذه الصناعة لأنفسهم عدة قرون، وبقيت سرا ذا حراسة مشددة، فلم يشرعوا في تصدير فنون الصناعة الورقية إلى الدول المجاورة "كوريا واليابان"، حتى بداية القرن السابع الميلادي. وصلت إلى منطقة آسيا الوسطى أواسط القرن الثامن الميلادي، حيث اكتشف المسلمون أسرارها في سمرقند، قبل أن ينقلوها إلى بغداد، خلال فترة حكم هارون الرشيد، ليعمم استخدام الورق مع تطور تقنيات التصنيع، حتى قيل إن أول مصنع للورق أقيم في بغداد عام 795م. نقرأ في مقدمة ابن خلدون "... فأشار الفضل بن يحيى بصناعة الكاغد، وكتب فيه رسائل السلطان وصكوكه، واتخذه من بعده صحفا لمكتوباتهم السلطانية والعلمية، وبلغت الإجادة في صناعته ما شاءت".
نقل المسلون صناعة الورق إلى باقي الأقطار، فدخلت الشام ومصر وبلاد المغرب الأقصى، حيث انتقلت من هناك إلى الدول الأوروبية. وبدأ تصنيع الورق في منطقة فالنسيا الإسبانية، بداية القرن الـ12، مع ظهور أول مصنع للورق هناك. بالنظر إلى حداثتها لقيت تجارة الورق تضييقا من جانب فريديريك الثاني، الإمبراطور الروماني الذي منع استخدام الورق في الوثائق العامة، بإصدار قرار عام 1221م يقضي بعدم صحة أي وثيقة رسمية مكتوبة على الورق.
يذكر أن صرح صناعة الورق تولى الصينيون والمسلمون إقامته مناصفة، فالأوليات والأسس كانت من نصيب الصين، ونجحت بكين عام 2009 في إدراج فن صناعة ورقة سيوانتشي، أفضل ورق في تاريخ صناعة الورق الصيني، لتميزه بدرجة عالية من مقاومة التلف، توجد في متحف المدينة المحرمة في الصين أعمال فنية على هذا الورق، عمرها يفوق ألف سنة، نجحت في إدراج هذا الفن ضمن قائمة التراث الثقافي الإنساني غير المادي العالمي. وأبدع المسلمون في الوراقة وفنون النساخة، أيام العصر الذهبي للدولة العباسية، وتطور فن الخط العربي بالتوازي مع تطور الورق. وبلغت مهارة المسلمين في هذه الصناعة حدا منقطع النظير، فالروايات تفيد بأن جابر بن حيان اهتدى إلى صنع ورق غير قابل للاحتراق.
يذهب جوناثان بلوم، في كتابه "الورق قبل الطباعة: تاريخ الورق وتأثيره في العالم الإسلامي" 2021، دار أدب للنشر والتوزيع بالشراكة مع مركز إثراء، إلى أن اختراع الألماني يوهان جوتنبرج آلة الطباعة ما كان ليجدي نفعا لو كانت الطباعة على الرق، إذ كانت التكلفة ستعادل ثمن نسخ الكتاب بخط اليد. لا يتردد المؤرخ استنادا إلى هذه الحقيقة في القول إن المطبعة التي تعد واحدة من أهم محركات التغير الاجتماعي والسياسي في أوروبا، ما كانت لتحظى بتلك الأهمية، لولا الرحلة التي عبرتها الورقة من غرب الصين حتى الأندلس.
حديثا، عرفت الولايات المتحدة الأمريكية أول مصنع للورق عام 1690. قرن بعد ذلك، ينجح الفرنسي نيكولا لويس روبيرت في اختراع أول آلة لصناعة الورق. استطاع الأمريكيون إدخال تعديلات على الآلة ذاتها، فنجحوا عام 1827 في تصنيع أول آلة أمريكية لصناعة الورق. شهدت بداية القرن الـ19 حدثا مهما، تمثل في اختراع آلة تحجيم الورق، ما أسهم في تحسين خصائص الكتابة على الورق.
ما سبق من ابتكارات أسهم في تطور صناعة الورق، لتمتد خارج حدود الكتابة والحرف، لتشمل نواحي كثيرة في الحياة اليومية، فحجم الإنتاج العالمي من الورق يقارب 200 مليون طن سنويا. وأضحى تدوير الورق بدوره تجارة مربحة، صنعت أثرياء عالميين أمثال تشونج يان إمبراطورة النفايات الورقية. رغم أن تدوير الورق - عكس بقية المواد - له حدود لن يتجاوزها، فالعملية لا يمكن أن تتعدى سبع مرات، قبل أن يتم التخلص منه نهائيا، لعدم إمكانية استخدامه مجددا.
أيا ما يكون المستوى الذي ستصل إليه الصناعة الورقية، سيظل منشؤها الأول، الكتابة والتدوين، ركيزة أساسية غير قابلة للتجاوز، رغم هدير التكنولوجيا والرقمنة، فمتعة جريان القلم وحبره على الورق، وتدوين الملاحظات على صفحات كتاب أو رواية رديفة الإنسان في حياته. عن هذه المتع نظم محمد البغدادي الشاعر العراقي أبياتا قال فيها " يهمني كل شيء فيك يا ورق/ معنى اصفرارك: أن العمر يحترق، ما بين لونيك غابات وأودية/ قطعتها ومتاعي الخوف والأرق، ما بين لونيك مل الحبر وحدته/ وكاد يقفز لولا خانه الرمق".