الديون ومستوياتها .. التضخم ودرجاته
يشهد العالم تقلبات وتذبذبات مستمرة، أدوات نموه الاقتصادية تأثرت في كثير من الدول بهذه الهزات المتلاحقة وتداعياتها الحالية والمستقبلية، حيث تختلف طبيعة ومسببات أزمات الاقتصاد العالمي من فترة لأخرى. ولأنها كذلك، فهي تختلف في طبيعة مواجهتها، خصوصا إذا كانت المتغيرات متسارعة، وبعضها مفاجئا وأثرها عميقا وزمن استمراريتها طويلا.
فالعلاج الذي كان ينفع للأزمة المالية التي تحولت إلى أزمة اقتصادية عام 2008، لا ينفع مع الأزمة التي يعيشها العالم حاليا. والأمر ينطبق على فقاعة الـ"دوت كوم" في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وأزمة ديون أمريكا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي، وكذلك ديون عدد من الدول الأوروبية (اليونان وإسبانيا والبرتغال وأيرلندا) في العقد الأول من القرن الحالي، وغير ذلك من أزمات إقليمية تحولت إلى معضلات عالمية من فرط قوتها أو انكشافها على السوق الدولية عموما. التحولات التي تحدث عبر الزمن، تسهم بصورة أساسية في اختلاف طبيعة الأزمات الاقتصادية.
ولا شك أن هناك عوامل مشتركة في الأزمات، مثل الديون ومستوياتها، والتضخم ودرجاته وفترات استمراريته، ومشكلات سوق العمل ومتغيراتها، لكنها تبقى أيضا متباينة، طبقا للحالة العامة للاقتصاد. فعلى سبيل المثال، وصلت البطالة إلى أدنى مستوياتها في كل من بريطانيا ومنطقة اليورو والولايات المتحدة، إلا أن الطلب على العاملين ما زال مرتفعا، وهناك عجز يصفه سياسيون بريطانيون بالمخيف في العمالة في المملكة المتحدة، ما أدى إلى تقليص حركة النقل والسفر والسياحة والضيافة، وتراجع الخدمات الطبية والاجتماعية.
صحيح أن الأمر أقل حدة في منطقة اليورو، لسهولة تشغيل مواطنين من أوروبا الشرقية بأجور لا تشكل ضغوطا على المشغلين، إلا أن ذلك ليس مضمونا في المدى البعيد. وفي العقود الأخيرة من القرن الماضي، كانت الحكومات تكافح من أجل حل أزمات البطالة، لكنها الآن تعيش ضغوطا هددت شعبية الحكومات ذاتها بسبب نقص اليد العاملة.
ويمكن أن تؤدي الديون والتضخم إلى جانب تغير طبيعة ميادين الإنتاج، إلى الخروج عن المسار. وإذا كانت ضغوط الديون طوال منتصف القرن الماضي ليست قوية، ويمكن التعاطي معها بهدوء، فقد بلغت اليوم مستويات خطيرة للغاية وسجلت أرقاما خرافية وفلكية، وسط موجة تضخمية بات السياسيون هنا وهناك يتحدثون عن حتمية التعايش معها لفترة لن تكون قصيرة. ولأن الأمر كذلك، فإن الاقتصادات، ولا سيما المؤثرة عالميا منها، تقترب من دائرة الركود الذي "احتفل" العالم بانتهائه العام الماضي، إثر ركود صبغ عام 2020 بفعل جائحة كورونا. في هذه الأثناء لا تزال أدوات التشغيل متخلفة بعض الشيء عن المتغيرات المتلاحقة في ساحات الإنتاج.
بالطبع هناك فروق بين دولة وأخرى على صعيد المواءمة بين اليد العاملة ومتطلبات سوق العمل، ولذلك هناك من يقترح رفع مهارات الأشخاص من أجل القيام بأدوار جديدة، يدعم مسار السوق، ويخفف الضغوط الآتية من عوامل أخرى. فحتى المرونة باتت مطلوبة الآن في التشغيل، مثل تكريس "ثقافة" العمل عن بعد، التي أثبتت فاعليتها خلال أزمة كورونا، ما يفسح المجال حتى لكبار السن المهرة بدخول السوق من جديد.
الأزمة الراهنة التي يعيشها الاقتصاد العالمي، عبارة عن "كوكتيل" من المشكلات، بعضها يعود إلى استفحال أزمة الديون، وفقدان السيطرة على التضخم، الذي "يتغذى" من حرب تدور حاليا في الساحة الأوروبية، ودعم مسار "الأتمتة" بصورة تتوافق مع التأهيل المطلوب. مع التأكيد أنه ما ينفع سابقا عبر توسيع نطاق السياسات النقدية، ليس ملائما الآن في بيئة عالمية متغيرة وبصورة مختلفة.