حرب تجارية تلوح في الأفق بين أوروبا والمملكة المتحدة .. هل يمزق اتفاق «الجمعة العظيمة»؟
لم يلجأ ميشال مارتن رئيس وزراء أيرلندا إلى اللهجة الدبلوماسية أو التصريحات التي تحتمل التأويل، وبصراحة شديدة أعلن أن الحرب التجارية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ستكون "مروعة"، داعيا لندن إلى التفاوض بشأن ترتيبات التجارة بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، والوضع الخاص بأيرلندا الشمالية التي تعد جزءا من المملكة المتحدة.
تصريحات رئيس وزراء أيرلندا تأتي بعد أن أعلنت حكومة بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني خططا لإلغاء أجزاء رئيسة من صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن المشكلة في أنه في حال تخلت المملكة المتحدة من جانبها عن عناصر الاتفاق المتفق عليها التي تضع حواجز على تجارة السلع بين بريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية، فإن الاتحاد الأوروبي لديه القدرة على تعليق أجزاء من صفقة التجارة الكاملة الموقعة بين الجانبين.
ويعد عديد من الخبراء تصريحات كبار قادة الاتحاد الأوروبي وخطوات المملكة المتحدة التي تهدد بتمزيق اتفاق دولي موقع مع الاتحاد الأوروبي، تنبئ بحرب تجارية مقبلة بين الطرفين، لكنها حرب من الخطورة بحيث يصعب أو يستحيل على الولايات المتحدة أن تقف في موقف المتفرج والنزاع يتصاعد بين أكبر حلفائها الدوليين.
وتقول روسر دهاردشين الباحثة في مجال العلوم السياسية لـ"الاقتصادية" "من المؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستتدخل لتهدئة الموقف وإيجاد حلول سريعة بين الطرفين، فأولا واشنطن الراعي الرسمي لاتفاق (الجمعة العظيمة) الذي وضع حدا لأعمال العنف التي كانت تشهدها أيرلندا الشمالية".
وأضافت "إذا أخذنا في الحسبان أن اتفاقية (الجمعة العظيمة) وقعت في عهد الرئيس بيل كلينتون من الحزب الديمقراطي الأمريكي، فإن الإدارة الأمريكية الحالية عليها التزام مضاعف لضمان استمرار الهدوء في أيرلندا الشمالية، تضاف الأصول الأيرلندية للرئيس بايدن، ولذلك الاشتباك التجاري بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قد يعني عودة أعمال العنف في أيرلندا الشمالية مجددا، وهو ما لن تقبل به واشنطن بأي حال من الأحوال".
وتستدرك قائلة "الأمر الأكثر أهمية أن حربا تجارية بين الأوروبيين والبريطانيين في هذا التوقيت تعني عمليا تفكك الجبهة الأوروبية البريطانية الأمريكية المعادية لروسيا، وتلك الجبهة لا تزال ضرورية ليس فقط لأن الحرب الروسية - الأوكرانية مستمرة، لكن لأن هذا التحالف الثلاثي يمثل حجر الزاوية في المرحلة المقبلة لصياغة النظام الدولي، ولذلك ستعمل واشنطن على الإسراع بوضع حد للنزاع المتصاعد بين بروكسل ولندن".
أما بنجامين جوليان الخبير الاقتصادي فيرى أن هناك جانبا آخر سيدفع بالولايات المتحدة بل والقادة من الجانبين الأوروبي والبريطاني لوضع سقف للغة الخطاب العدائية بينهما، ولعدم الذهاب بعيدا في هذا الصراع.
ولـ"الاقتصادية" يقول "الوضع المعيشي في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يشهد أزمة حقيقية في الوقت الراهن، والدخول في صراع تجاري سيدفع بمعدلات التضخم إلى مستويات ستترك بصمات شديدة السلبية على معدلات النمو في المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، إذ يمكن لكل طرف استهداف مجموعة من المنتجات الحساسة لدى الطرف الآخر لتعظيم تأثير العقوبات"، وأضاف "بدون رفع التعريفة الجمركية فإن تكثيف الإجراءات البيروقراطية يجعل النشاط التجاري أكثر صعوبة على الشركات التي تتعامل في السوقين الأوروبية والبريطانية، إذ يكفي أن زيادة الإجراءات الروتينية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانت مسؤولة عن انخفاض مستويات التصدير بأكثر من 10 في المائة في الوقت الراهن مقارنة بـ2019".
مع هذا يرى بعض الخبراء أنه بغض النظر على المدى الذي سيصل اليه الصراع، وقدرة الطرفين على احتوائه، فإنه من المؤكد أن المنافسة بينهما ستحتدم في بعض القطاعات خلال الأعوام المقبلة، وربما تتركز المنافسة في القطاع العقاري الذي يحتل مكانة بارزة في الاقتصاد البريطاني والأوروبي على حد سواء.
تاريخيا يحتل القطاع العقاري مكانة بارزة في المملكة المتحدة، وفي الثقافة البريطانية فإن ثروة البريطانيين الحقيقية تكمن في قيمة منازلهم، التي ما إن تضيق بهم سبل العيش وتتفاقم تكاليف المعيشة إلا ويقومون ببيعها والانتقال إلى منزل أصغر حجما وأقل ثمنا والاستفادة من فروقات الأسعار بين منزلهم المبيع الأكبر حجما والمنزل المشترى الأصغر مساحة أو الأكثر بعدا عن مراكز المدن الذي يقع غالبا على أطراف المدن، دون أن يعني ذلك بالضرورة مصاعب جمة في التنقل في ظل شبكة متطورة للغاية من المواصلات والطرق.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فالقطاع العقاري في المملكة المتحدة يعد أحد أكثر القطاعات جاذبية للمستثمرين الأجانب، ويصعب أن تنافس عاصمة أوروبية لندن في جاذبيتها في هذا المجال، ومع الارتفاع المتواصل للعقارات في المملكة المتحدة، فإن شراء عقار في المملكة المتحدة خاصة في لندن وضواحيها لا يزال أمرا مربحا عند بيعه بعد بضعة أعوام.
تشير المؤشرات الراهنة إلى أن التضخم بلغ في المملكة المتحدة أعلى مستوى له في 40 عاما، ويتوقع أن يصل إلى 10 في المائة بنهاية العام، وتزداد تكلفة المعيشة سواء في ارتفاع فواتير الغذاء والطاقة بينما تنخفض الأجور الحقيقية، وأسعار الفائدة ترتفع وستواصل الارتفاع، مع هذا فان سوق الإسكان لا تزال مليئة بالحيوية حتى الآن على الأقل.
وتوضح لـ"الاقتصادية" جوليا جلوي الخبيرة العقارية أن أسعار العقارات في المملكة المتحدة ستواصل الارتفاع، وهو اتجاه بدأ خلال جائحة كورونا ولا يزال مستمرا، فعديد من الأشخاص اعتنقوا منهج العمل من المنزل أو العمل الهجين أي العمل أياما محددة من المكتب وباقي أيام الأسبوع من المنزل، ما أدى إلى زيادة الطلب على العقارات الأكبر مع حديقة، وفي الوقت الراهن الطلب يفوق العرض بكثير حيث يتم شراء عديد من العقارات في غضون أسبوع أو أسبوعين، والمنازل العائلية الكبيرة التي استغرق بيعها من ستة إلى تسعة أشهر قبل الوباء تباع الآن في غضون ثلاثة اسابيع، وحتى الان تحتل لندن المدينة الأكثر تفضيلا من حيث الاستثمار متفوقة بكثير على برلين أقرب منافس أوروبي لها، مستفيدة من عمق سوقها ومكانتها في مجال الاستثمار العقاري، خاصة مع قناعة عديد من الشركات العقارية الدولية بأن العاصمة البريطانية تقدم قيمة وعائدا استثماريا أفضل من منافساتها. إلا أن عددا آخر من الخبراء في المجال العقاري يتشككون أو يتخوفون على الأقل من إمكانية ألا يظل المشهد العقاري البريطاني هكذا إذا ما اندلعت حرب تجارية معلنة أو في خفية بين الأوروبيين وبريطانيا.
ويعتقد المهندس كريس نارديلي الاستشاري في مجال التشييد والبناء أن مواصلة ارتفاع تكاليف المعيشة في المملكة المتحدة، وعدم رفع أسعار الفائدة الأوروبية، ربما يعكسان الاتجاهات التفضيلية الحالية في سوق القطاع العقاري ويحولها من لندن لمصلحة الدول الأوروبية، خاصة في ظل شعور متزايد لدى بعض المستثمرين بأن هناك تقييما مبالغا فيه في أسعار العقارات في المملكة المتحدة، حيث يبلغ سعر المتر المربع حاليا ضعف السعر السائد في إيطاليا على سبيل المثال.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "في حال اندلاع حرب تجارية بين المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فمن المتوقع أن يتبنى الجانب الأوروبي مجموعة جديدة من التدابير لإضفاء الجاذبية على القطاع العقاري لديه، خاصة في فرنسا وهولندا وبرلين ولشبونة وزغرب، كما أن جزءا كبيرا من قطاع الإسكان الفاخر في المملكة المتحدة كان يتم تمويله من خلال مشتريات الأثرياء الروس والصينيين، والآن المملكة المتحدة تتبنى تدابير عنيفة ضد الأثرياء الروس، وقد أوجد ذلك مخاوف لدى الصينيين من إمكانية تعرض ثرواتهم العقارية في المملكة المتحدة للمصادرة في حالة اندلاع نزاع مع المملكة المتحدة، بالطبع الأوروبيون اتخذوا أيضا إجراءات ضد الأثرياء الروس لكنها أقل عنفا من نظيرتها في المملكة المتحدة".
يعد انخفاض أسعار العقارات في الدول الأوروبية التحدي الرئيس الذي يمكن أن يؤدي إلى خفوت نسبي في بريق قطاع العقار البريطاني، إذ انخفضت الأسعار أوروبيا بنحو 5 - 10 في المائة، وربما يمثل ذلك جاذبية لكثير من المستثمرين الذين قد يجدون أن العقارات الأوروبية أكثر تحوطا ضد التضخم مقارنة بنظيرتها البريطانية. ولـ"لاقتصادية" يعلق ال. دي جورج رئيس قسم التمويل العقاري في مجموعة نت وست البنكية قائلا "قوة القطاع العقاري الأوروبي تنبع من السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي وليس من القطاع العقاري ذاته، البنك المركزي الأوروبي لديه سياسة نقدية فضفاضة للحفاظ على أسعار فائدة منخفضة، ولا يرى المستثمرون أي احتمال لتغير هذا النهج في الأمد المنظور".
وأضاف "هذا ما يجعل سوق العقار الأوروبية أكثر جاذبية من نظيرتها البريطانية، كما أن انخفاض أسعار الفائدة الأوروبية يجعل شراء الأسهم محفوفا بالمخاطر لأنها متقلبة، والسندات باهظة الثمن نظرا إلى أن العوائد لا تزال تحوم حول مستويات منخفضة للغاية". وأشار إلى أنه إذا اندلعت حرب تجارية وواصل الاتحاد الأوروبي الحفاظ على أسعار فائدة منخفضة فإن سوق العقار البريطانية ربما تتضرر جراء ذلك".