المعرفة المبعثرة
مع ذروة التنقلات الوظيفية وازدياد معدلات التوطين في الوظائف الفنية والمختصة بقليلي الخبرة يشعر بعض أرباب العمل بالمعاناة حين ينظرون إلى منحنى التعلم الخاص بالمنظمة. لا يسهل قياس هذا الأمر لكن القائد الحذق سيعرف إن كان المنحنى الكلي لمنظمته متناسقا مع طموحات المنظمة أو مضطربا ومتخلفا عن واقعه. سيعرف إن كانت شركته أو هيئته تتعلم بالشكل المطلوب أو أن التحديات التي تواجهها كان من الممكن تفاديها لو كانت منظمته تعرف كيف تصل إلى الحقائق والخلاصات بشكل سريع وواضح. سيعرف إن كانت منظمته تخسر من سرعتها ومرونتها لأنها تعرف أقل، وسيعرف لو أن فريق الأعمال يسقط في الوحل كل مرة يقوم بعملية التجربة والخطأ Trial and Error التي يجب أن يستخدمها في البناء والتقدم وليس تعقيد الأمور. وسيعرف كذلك بأنه يصنع كثيرا من القرارات باستخدام حدسه وخبرته، وأنه لن يكون مضطرا إلى القيام بذلك وسيبدلها بقرارات موضوعية مباشرة لو كانت منظمته تعرف وتتعلم بشكل جيد. وبكل تأكيد هناك مدير آخر يقع في عمق دائرة التأخر هذه، لكنه لا يعرف.
يصور منحنى التعلم فكرة بسيطة جدا، وهي أن المنظمة تتعلم أكثر كلما مر الوقت وجربت أكثر، أنتجت أكثر. والتعلم هنا يتمثل في قدرتها على زيادة الإنتاجية والكفاءة والاعتمادية والجودة بموارد أقل وبرفع للعوائد، وهذا كله يتمثل في صنع قرارات أفضل مبنية على معرفة متراكمة متناسقة يحوزها العقل الجمعي للمنظمة الذي يستند إلى أنظمتها وإجراءاتها وقبل ذلك الأشخاص الذين يعملون بها. ومنحنى التعلم المؤسسي ليس قاعدة أساسية أو طريقة وحيدة للسيطرة على فكرة التعلم، هو مجرد تصوير واضح لطريقة جميع الخبرات والمعارف ومراقبتها وتسخيرها لهدف المنظمة. وهناك اليوم عدد من المفاهيم والممارسات المرتبطة بهذه المشكلة ومنها إدارة المعرفة وهي ما يجمع الأدوات والتقنيات والموارد التي تسخرها المنظمة للحفاظ وتنمية المعرفة المكتسبة في مجال عملها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يحطم الواقع الجديد بخصائصه الجديدة (استقالات متكررة، فترات عمل قصيرة، انخفاض الولاء المؤسسي... إلخ) منحنى التعلم ويضع المنظمات في اختبار صعب ومختلف؟ أم تأثير هذا الواقع هامشي ومنحنى التعلم أساسا في وضع صعب وضعيف ولا يعتني به أحد. قد يقول قائل، هذا سؤال في غير محله، لماذا نحتاج أصلا إلى النظر في منحنى التعلم؟ والحقيقة قد يكون هذا الكلام صحيحا في بعض الحالات. المسألة مرتبطة بنموذج العمل ومقدار القيمة التي يصنعها العمل أو تنتجها المنظمة. كلما كانت القيمة منفردة وعالية، وتقوم على جمع استثنائي للموارد وsynergy مميز، كانت الحاجة إلى العناية بمنحنى التعلم أكبر، بينما تكون الحاجة في المنظمات البسيطة التي تكرر القيمة التي ينتجها الآخرون أو ليست ذات قيمة مضافة في المجتمع / الاقتصاد، فالحاجة لإدارة منحنى التعلم تصبح بسيطة جدا.
محليا، أرى أن إدارة منحنى التعلم ضعيفة جدا، والجمع الجيد بين الأنظمة والإجراءات والعقول داخل أماكن العمل وربط ذلك بالتعلم ليس في أفضل حالاته. وإذا أضفنا إلى ذلك التحديات الجديدة يصبح التحدي أكبر وأصعب. عامل الخطر الأهم هنا ليس في القدرة على إدارة الوضع الحالي، وإنما على تقويض قدرة المنظمة المستقبلية على القيام بما تود القيام به. الضعف الشديد في منحنى التعلم يعني تباطؤا في الوصول إلى المستهدفات المستقبلية، خصوصا لو كانت طموحة. التعامل مع النمو، المنافسة الشديدة، التحديات التقنية والابتكارية، تحديات العملاء السلوكية، الكفاءة والفاعلية التنظيمية، كل هذه الأمور تتطلب منظمة تسيطر على منحنى التعلم بها، وهذا يعني أدوات ومنهجيات وفكرا داخل المنظمة يسمح بحدوث ذلك، وموظفين يمتلكون ما يمكن مناقلته وتنميته والحفاظ عليه.
لو افترضنا جدلا أن المنظمات تعرف كيف تدير منحنى التعلم وتسيطر على تطوير كل المدخلات المطلوبة في معادلة التعلم داخل مكان العمل بما يتفق مع مستهدفات المنظمة، لكن الموظفون لا يسهمون بدورهم بالشكل المطلوب. كيف يحدث ذلك؟ مثلا: معرفتهم المتراكمة هشة وضعيفة، فترة بقائهم لا تكفي لتدوير المعرفة ودمجها مع العناصر الأخرى بمحيط المنظمة سواء بالأخذ أو العطاء. في هذه الحالة، حتى لو اكتمل كل العناصر الأخرى، لا أعتقد أن المنظمة ستحافظ على منحنى التعلم، بل ستكون محاطة بالمعرفة المبعثرة التي لا يمكن المراهنة عليها، وستظل تستخدم الحدس والإحساس في قرارات تتطلب الحقائق والموضوعية، وسيكون هناك قدر كبير من المراهنة والمخاطرة غير المقبولة إلا لو قامت بمعالجة هذا التحدي بحلول مبتكرة ومختلفة.