سلعة استراتيجية وسوق تتوازن
تشهد أسواق النفط العالمية حاليا مفارقات وتحولات متنوعة، ففي ظل نمو منخفض يضرب العالم، ويهدد بركود تضخمي يرتفع الطلب على النفط. فهذه السلعة التي ستبقى حيوية لعقود مقبلة عادة ما تشهد تراجعات في أسعارها خلال الأزمات الاقتصادية. لكن الأمر ليس كذلك الآن، ويعود السبب في ذلك، إلى أن الطلب المتصاعد يدخل ضمن نطاق استعادة التوازن، الذي تعرض لمؤثرات متزايدة أيضا، بفعل الحرب الدائرة في أوكرانيا، رغم إقدام الولايات المتحدة مثلا على السحب من الاحتياطي النفطي لديها، بل إمداد أوروبا عبر الطرق البحرية. فقد ثبت أن هذه التجربة لن تنجح، ولا تخرج عن إطارها الرمزي. فمواجهة المتغيرات الراهنة في السوق النفطية، لا تتم عادة عبر خطط غير مستدامة، حتى إن كانت موائمة للمشهد العام.
ولا بد من التأكيد أن الأوروبيين لا يملكون في الواقع استراتيجية متماسكة للطاقة. فقد أظهرت الحرب بين روسيا وأوكرانيا مدى الفجوات في هذه الساحة المحورية في القارة الأوروبية. حتى مع بدء موسم الصيف الدافئ ظل الطلب على النفط والغاز مرتفعا، فكيف الحال في الموسم المقبل؟ ولا شك أن ارتفاع الطلب على النفط من الصين كان عاملا رئيسا في رفع الأسعار في الآونة الأخيرة التي تتوقع مجموعة "مورجان ستانلي" أن يصل سعر البرميل إلى 150 دولارا. علما بأن الحد الأقصى المسجل لسعر البرميل بلغ 147 دولارا في 11 تموز (يوليو) في 2008، وفق السجلات العالمية. بمعنى، أن الأشهر المتبقية من العام الحالي، ستشهد ارتفاعا تاريخيا فعليا لأسعار النفط، مع زيادة أقوى في الطلب.
الذي حدث أن الطلب على النفط ارتفع بالفعل العام الماضي لأسباب مباشرة تتعلق بعودة النمو الاقتصادي العالمي بعد انكماش مخيف ضرب العالم بسبب تداعيات فيروس كورونا. وهذا ما رفع الأسعار إلا أنها بقيت في نطاق المقبول كما تقول الجهات المستوردة للبترول، لكن مع نشوب الحرب في أوكرانيا، وقيام الغرب بإطلاق سلسلة من العقوبات القوية على روسيا بما في ذلك حظر استيراد النفط والغاز منها حتى الفحم، ارتفعت الأسعار أكثر من 60 في المائة. ومع ذلك، وفي سياق المفارقات صارت فرنسا مثلا أكبر مستورد للغاز الروسي الشهر الماضي. لكن يبدو واضحا أن مسار الحظر الأوروبي على الطاقة الروسية عموما يمضي قدما حتى نهاية العام الجاري على الأقل، على أمل الوصول إلى البدائل الأكثر استدامة.
العوامل كثيرة لارتفاع الطلب وبالتالي أسعار النفط، إضافة إلى مؤشرات النمو في الصين، وحراك إعادة التوازن للسوق قدر الإمكان، وتؤثر الاضطرابات المتوالية لإمدادات النفط الآتية من بلد مثل ليبيا، فضلا عن المشكلات التي لا تتوقف لقطاع النفط في فنزويلا التي أعادت الإدارة الأمريكية النظر في تعاملاتها غير الودية مع حكومتها، من أجل توفير إمدادات نفطية إضافية، وسط الأزمة الراهنة.
هذا التحول السياسي الذي لا يزال في بدايته مثلا يفسر طلب إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من صناعة التكرير الأمريكية إعادة تشغيل محطات توقفت عن العمل منذ أعوام عديدة. تتأرجح أسعار برميل النفط حاليا في حدود 125 دولارا، وبعض التوقعات تتحدث عن زيادة قد توصلها إلى 140 أو 150 دولارا، وهذا يعني أن الضغوط من ناحية التضخم على الحكومات في الدول المستوردة للطاقة ستزداد أيضا. فأسعار النفط المرتفعة زادت من معدل أسعار المستهلكين إلى درجة أن بدأ السياسيون يدعون إلى التعايش مع التضخم. السوق النفطية تحتاج إلى إمدادات طبيعية. فعوامل مثل الطقس الدافئ وضعف النمو لم تحل مشكلة النقص في هذه السوق المحورية.