أزمة تتمدد وتتضخم

تتوالى التحذيرات من الجهات المختصة العالمية عن أزمة الغذاء، التي قد تستفحل إذا لم يتم إدراك مسبباتها، حيث تشير إلى أن ملايين من سكان العالم سيتضررون من آثار هذه الأزمة، وسيواجهون انعداما للأمن الغذائي، مع احتياجهم إلى مساعدات عاجلة منقذة لحياتهم، وداعمة لسبل العيش، خصوصا في الدول والأقاليم التي يتجاوز فيها حجم الأزمة الموارد والقدرات المحلية.
وترى هذه التقارير أن الاتجاهات المقلقة في انعدام الأمن الغذائي هي نتيجة لعدة عوامل تتغذى على بعضها، بدءا من الصراعات، والحروب الجيوسياسية، مرورا بالأزمات البيئية والمناخية، والأزمات الاقتصادية والصحية، والفقر وعدم المساواة.
ومن هنا لا يبدو أن أزمة الإمدادات ولا سيما الغذائية منها ستشهد حلا سريعا على الساحة العالمية، فالمسببات متعددة لهذه الأزمة، والإجراءات التي تتخذ لمواجهتها تبقى أضعف من طبيعتها، بما في ذلك بالطبع الحرب الدائرة في أوكرانيا، وما تركته جائحة كورونا في الميدان، إلى جانب الضغوط التي لا تتوقف من جهة التضخم الذي صار المعوق الاقتصادي الأول حاليا. فاتورة الغذاء العالمية التي قفزت إلى 1.8 تريليون دولار، بحسب منظمة الأغذية والزراعة "فاو"، مرشحة أيضا لمزيد من الارتفاع بفعل عاملين، الأول، زيادة أسعار السلع الغذائية طبعا، والآخر الزيادة المستمرة في تكاليف النقل حول العالم. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن حاوية بحجم 40 قدما كان نقلها يكلف من الصين إلى الولايات المتحدة قبل عام 2019 نحو ألفي دولار، صارت تكلفتها الآن ربما تصل إلى 25 ألف دولار!
ولم يشهد العالم اضطرابا مخيفا بهذا المستوى في الإمدادات الغذائية منذ الحرب العالمية الثانية، ما يبرر في الواقع الزيادة المتصاعدة في فاتورة الواردات الغذائية العالمية بأكثر من 51 مليار دولار هذا العام مقارنة بالعام السابق.
ومع احتدام الحرب في أوكرانيا، التي أظهرت مدى الانكشاف العالمي على كل من روسيا وأوكرانيا في مجال إمدادات الحبوب ومشتقاتها، بدأت الحكومات حول العالم في اتخاذ إجراءات لا تستهدف فقط توسيع نطاق الاحتياطي من الحبوب والغذاء بشكل عام، بل تركز بصورة خاصة على خطوط النقل، لتحصينها من الآثار المباشرة للعمليات العسكرية، ولاختصار ما أمكن من المسافة بين المناطق المنتجة والجهات المستوردة، وهذا ينطبق أيضا على السلع الأخرى غير الغذائية، في محاولة أخرى جديدة لتخفيف الضغوط الآتية من اضطراب سلاسل التوريد بأنواعها.
لكن الأمور لن تتم بسهولة ولا بصورة سريعة، لأن اللوجستيات المطلوبة تحتاج أولا إلى أرضية قوية، والأهم إلى تعاون بين الأطراف المعنية، وعادة لا يكون التعاون حاضرا في زمن الحروب، أو في وقت تعمه المتغيرات على الأرض. وللتأكيد على فداحة الأزمة الآتية من ارتفاع تكاليف النقل، واضطراب الإمدادات في آن معا، فإن المخزونات العالمية من القمح مثلا سترتفع هذا العام بصورة طفيفة، ليس بفعل زيادة زخم إنتاجها، بل من فرط ارتفاع كمياتها في المخازن، فهي متراكمة في دول مثل روسيا، والصين، وأوكرانيا.
وحتى لو تم التوصل إلى اتفاقات للإفراج عنها، فإن تكاليف النقل المرتفعة ستنال بصورة أو بأخرى من إيجابية توافرها، ومن هنا، فإن النقل يبقى حاليا عنصرا مسببا آخر لما يشهده العالم من اضطراب، على صعيد الإمدادات بشكل عام، والواردات الغذائية على وجه الخصوص. المخيف حقا، أنه في الوقت الذي ينخفض فيه حجم الإمدادات الغذائية، ترتفع فاتورتها خصوصا في ساحة الدول التي تعتمد بصورة أساسية على استيرادها، ولا سيما في القارة الإفريقية ومنطقة جنوب الصحراء. إنها مفارقة يبدو أنها ستستمر حتى يتضح المشهد العام على الساحة الدولية، فحتى أسعار المواد الغذائية صارت غير محتملة في الدول المتقدمة، بسبب تكاليف النقل التي لم تعد ترحم، إلى جانب نقص وفرتها.
ولا شك في أن وصول أسعار الطاقة إلى مستويات عالية جدا في الفترة الأخيرة، عمقت أزمة النقل، وتكاليفها، لكن المشكلة المحورية تكمن دائما في اتساع المسافة بين جهتي التصدير والاستيراد، وتتعمق أكثر في زمن النزاعات السياسية، والعسكرية، حتى الاقتصادية. فمشكلات النقل كانت موجودة وإن بصورة بسيطة قبل الجائحة والحرب، ومن المتوقع أن تواصل هذه المشكلات الضغط بقوة في الفترة المقبلة.
التعاون الدولي الحقيقي لن يخفض أسعار النقل فحسب، بل سيضمن توافر الإمدادات وفي مقدمتها الغذائية، ما يبرر اقتراح "فاو"، إنشاء مرفق عالمي لتمويل الواردات الغذائية، لدعم ميزان المدفوعات في الدول منخفضة الدخل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي